مفاهيم العقل والدين عند أنطون سعاده

العقل في مفهوم أنطون سعاده
غير مفهوم العقل عند غيره من الفلاسفة

ومفهوم الدين عند سعاده
غير مفهوم الدين عند غيره

تعليقات
استلمت عدة تعليقات على المقال الذي كتبته تحت عنوان :
” ليس كل كلامٍ مقبول حتى وان كان كلام فلاسفة ” من الرفقاء محمد بركات ، وعبد القادر عبيد ، ود. سنا الركابي ، وسعاده ابراهيم عبد الرحيم وخليل قاسم الخضري يدافعون في تعليقاتهم عن الفيلسوف ابن رشد . بعضهم يعتبر : ” أن اللسان هو أهم اداة ابتكرها العقل ماتت حين قُدست ” ويعني تقديس اللغة التي تخرج من اللسان .
و تعليق آخر كان يتمنى عليّ : ” أن أقرأ شيئاً عن ابن رشد قبل أن أعلق على مقولة مجتزأة من مجمل أفكاره في مبحث العقل والذي استطاع بأفكاره ان يحرك اوربا طيلة اربعة قرون بنشاط فلسفي مهد للنهضة الاوربية … وأمتنا والعالم العربي والاسلامي لانهوض ولانهضة لهم الا باعتماد العقل كأداة للمعرفة “.
وتعليق يقول : ” لايمكن ياصديقي أن تنفي عن أي ايديولوجية امكانية خضوعها لقانون الخير والشر … وأن بن رشد على حق ، ولولا أفكار ابن رشد وما نقله عن الفلسفة اليونانية وتعليقاته وشروحاته لما خرجت أوروبا من عصور الظلام،العصور الوسطى، التي كانت الكنيسة هي الحاكم المطلق باديولوجية دين زرع الارهاب والقتل والجهل والتخلف رغم أنه كان يوماً “دين المحبة” … وأن التاريخ علّمنا أن الدين ، أي دين، سلاح فتاك ووبال على المجتمعات عندما تتبنى ايديولوجيتة مجموعات بشرية جاهلة ، عكس الايمان الذي هو فردي ويمكن أن يكون خير لأنه لا يعتمد في مفهومه على ايديولوجية بعينها . ”
وتعليق آخر يقول انه”يحب الاستطرادات التي أقدمها لكن ما قاله ابن رشد ويقصد الديانات الابراهيمية وخاصة المحمدية صحيح ” وتعليق آخر جاء فيه :
” رفيقي يوسف وأنت في المغترب تطل علينا بفكرك المرتكز على فلسفة سعاده في تعريف وتوضيحك لمفهوم الأديان أبدعت حين شرحت مقولة ابن رشد وحرضت على اعتماد الدين العقل للاضافة الى ما تراكم من معرفة عند الأجيال ” .

شكر أصحاب التعليقات

استهل كلامي بتقديم الشكر والتقدير والاحترام لجميع الرفقاء المذكورين لتحملهم عناء قراءة مقالي وتعليقاتهم عليه ومشاركتهم في تبادل الآراء ووجهات النظر والاجتهاد في التصحيح والتصويب بهدف الوصول الى الرؤية الأوضح والانفع ، ولكني أحب أن أوضح أن مقالي في الحقيقة لم يكن مقالاً عن العقل ومفهومه وأهميته في الحياة ، ولا دراسة عن مفهوم العقلية في شعب من الشعوب أو أمة من الأمم .والقصد لم يكن النيل من هيبة الفيلسوف ابن رشد وتسفيه مقولته ممقولته في العقل وقيمته كفيلسوف ، وانما القصد كان التوضيح وتعيين وجهة الدين وتجنب الاطلاق والتعميم . والذين يخلطون بين مفهوم العقل ومفهوم العقلية فاتهم أن العقل شيء والعقلية شيء آخر .ولست في مجال وضع دراسة عن العقل أو عن العقلية وان كان المفهومان متلازمان ، بل ان الرد او المقال الذي كتبته لم يكن عن مفهوم العقل بل كان عن مفهوم الدين الذي يمكن ان أن يعبّر عن اتجاهين في الحياة الاجتماعية الانسانية بعد التوضيح والانطلاق من الوضوح الذي يساعدنا على فهم الأمور والاشياء التي تساعدنا في حياتنا وتخرجنا من من حالة الفوضى والبلبلة التي تعيشها أمتنا . ولذلك ، ميزت بين مفهومين بعد تعريف وتحديد نوعي الدين اللذين هما : دين خيرالانسان – المجتمع الذي ينفعه في النمو والرقي والتسامي ، ودين شر الانسان – المجتمع الذي يؤذيه ويعطل نموّه ويقهقره ويؤدي به الى التخلف والانحلال والتلاشي .

الثقافة تتبع المجتمع في الرقي والتخلف

وبناء على ذلك ، نرى ان للانسان- المجتمع النامي الراقي له ثقافته وللانسان- المجتمع المعطل نموه له ثقافته المتخلّفله. وبما أن الدين دين الانسان ولا وجود لدين الا للانسان ، فان الدين تابع والانسان متبوع . فاذا كان الانسان-المجتمع ناميا متطورا راقيا كان دينه على مثاله نامياً متطوراً راقياً . أما اذاا كان الانسان- المجتمع متخلفاً متقهقراً مغموراً بالخرافات ، فان دينه حتماً هو دين تخلف وتقهقر وخرافة .
ولهذا ارى في نموّ ونضوج الانسان- المجتمع خيراً ،وفي تخلف الانسان- المجتمع وتقهقره شراً.ولما كان الدين مظهراً ثقافيًاً انسانياً، فان خيره أو شره غير متأتي من الدين بل متأتي من رقيّ أو تخلف الانسان الذي انتج الدين. وتحميل الدين وزر التخلف هو هروب من تحمّل المسؤولية والقيام بواجب النهوض والتخلص من التخلف . فاذا كان الانسان ذو روحية خيّرة ، وعقلية سليمة ، ونفسية جميلة ، وعقل واعي يميّز بين الحق الذي ينفعه والباطل الذي يضره، وبين الخير الذي يريحه والشر الذي يقلقه فلا يمكن لثقافة دينية شريرة أن تضلله وتعميه عن صلاحه وخيره .
المسألة المهمة هي مسألة ثقافية والدين ثقافة . والثقافة نوعان : ثقافة تنوير وتعليم وتربية وتأهيل تنفع ، وثقافة تعمية وتجهيل وطقوس وترسيخ أعراف وعادات وتقاليد تخدير وتعطيل وبث خرافات وأوهام تُضل وتؤذي .
أما الثقافة التي تنفع فهي ثقافة الانسان – المجتمع التي تتسع الى رحاب قومية مجتمع الأمة، أو بتعبير آخر التى تركّز على ترسيخ الثقافة القومية – الاجتماعية المعممة التنوير على مجموع أبناء المجتمع في جيلهم الحاضر الممهد طريق التنوير أمام الأجيال الأتية ،والى جانب ذلك ثقافة نهضة الأمة الانسانية المندفعة بثقافتها الانسانية الى الأرقى والساعية كما يقول المعلم انطون سعاده في كتابه (الصراع الفكري في الأدب السوري ) الى ” طلب الحقيقة الكبرى لحياة أجود ، في عالم ٍ أجمل ، وقيمٍ أعلى ” حيث يتحقق بهذا السعي ايجاد الانسان-العالمي المركب من تفاعل نهضات الأمم الراقية الحضارية الانسانية .
فالثقافة الدينية التي تساعد على تنوير الفرد الانساني ذكراً كان أو انثى وتوعيته ليعي أن وجوده ما كان بالانعزال بل بالاجتماع في المجتمع، وان شخصيته الفردية لا تتحقق خارج المجتمع بل في المجتمع ، وان بقاءه ومصيره حتى الفردي لن يكون خارج المجتمع بل في المجتمع الباقي بقاء الأجيال . وأن الفرد الذي هو بحد ذاته مجرد امكانية اجتماعية هو في الحقيقة امكانية اجتماعية انسانية فاعلة في المجتمع وغير فاعلة بل متلاشية خارج المجتمع.
وعلى أساس هذا الوعيّ يدرك الانسان – الفرد أنه خلية حيّة في الانسان- المجتمع وليس خارج الانسان-المجتمع. وكمال الانسان- المجتمع وتمامه هو انسان- مجتمع الأمة وليس انسان- مجموع أفراد وفئات .وان الثقافة الدينية الفضلى هي التي تؤدي الى وحدة مجتمع – الأمة روحيةً وعقليةً ونفسيةً وكياناً روحياً- مادياً أي مدرحياً .
مفهوم الدين عند أنطون سعاده
وبهذا المعنى يقول العالم الاجتماعي أنطون سعاده في كتابه العلمي الاجتماعي :
” نشوء الأمم ” في الفصل السابع :” اذا مثل الدين وحدة العقيدة في شعب كان من العوامل على تقوية التجانس الداخلي الروحي فيه . وكلما كان الشعب متأخراً في الارتقاء الفكري الفلسفي كلما كان الدين أفعل في السيطرة على العقلية . الحقيقة أن الدين في أصله لا قومي ومنافي للقومية وتكوين الامة . لأنه انساني وذو صبغة عالمية ” .
ان نعت أنطون سعاده للدين انه انساني وذو صبغة عالمية كلام مهم يجب تدبره بما يستحق .
وهذا صحيح بالمطلق لأن التأخر في الارتقاء الفكري الفلسفي في شعب من الشعوب يجعل الشعب بسيطاً ساذجاً ليّناً عاطفياً سريع التأثر بالتآويلات المباشرة والأمور البسيطة التي لا تحتاج الى جهد عقلي لفهمها .
ويضيف سعاده على ذلك بقوله :” ولكن الدين،الهياً كان أوغير الهي . لم يشذ عن قواعد الشؤون الانسانية ولم يخرج على مقتضيات نوع الحياة البشرية وحاجاتها المتباينة او المتقاربة . ”
ويقول أيضاً في الفصل نفسه :” ان الدين واحد ولكن الأمم متعددة . وفي احتكاك الأمم بالأمم تتمسك كل واحدة بكل عقيدة أو بأية عقيدة .”
الى أن يقول ” ان الدين من الوجهة العقلية فهو نوع من أنواع الفلسفة في تعليل مظاهر الكون وتقدير نهايته ومصير النفس البشرية ”
وبما ان الأمم متعددة وفي احتكاكها فيما بينها تتمسك كل واحدة من هذه الأمم بالعقيدة التي تناسبها، فان المجتمعات كما قال عنها سعاده : ” أن في المجتمعات الانسانية نزعة الى اكساب العقائد العامة صبغات والواناً وأذواقاً من خصوصيات شخصياتها . فكل مجتمع يجب أن يرى نفسه وشؤونه الخصوصية في معتقداته ومذاهبه ”
لقد ارادت بحسب قول سعاده :” الجامعة الدينية أن تحول دون نشوء الأمم ولكن الأمم عدّلت الدين ليوافق نزعاتها القومية وبهذا المعنى صار الدين ويصير عنصراً من عناصر القومية . وفي الأمم ، التي تتعدد فيها الأديان أو المذاهب تكون القومية الدين الجامع ويعود الدين الى صبغته العامة وعقائده الأساسية المتعلقة بما وراء المادة ”
نستخلص من كل ما تقدم أن عقيدة القومية الاجتماعية في أمتنا هي الدين الجامع لأبناء الأمة ، الموحّد الأمة والمنشيء روحها القومية ووجدانها الاجتماعي الواحد . وهذ هو دين خير الأمة وحقها وجمالها. وشرط دين الخير في هذه الحالة ان يكون عنصراً قوميا لا يتضارب مع وحدة الأمة وتكوين روحيتها القومية الاجتماعية الانسانية .

الوجدان القومي الاجتماعي أساس الدين المدني

وقد كان العالم الاجتماعي أنطون سعاده واضحاً تمام الوضوح وبليغاً تمام البلاغة في كتابه نشوء الأمم في التعبير عن الدين الخيّر لأمتنا حين قال : ” ما دمنا قد بلغنا حد الوجدان القومي الذي هو أبرز الظواهر الاجتماعية العامة العصرية فقد بلغـنا هذا الدين الاجتماعي الخصوصي الذي أعطى الكنعانيون فكرته الأساسية للعالم ونُعت في بعض الظروف بالخديعة الكنعانية أو الاثم الكنعاني ”
وبهذا يسهل علينا فهم حقيقة القول: ” ان العالم شهد أديانا تهبط من السماء الى الأرض أم االيوم فيشهد دينا جديدا يصعد من الأرض الى السماء “، ويتم الوضوح التام بين معنى الدين الالهي والدين القومي الاجتماعي الانساني وعدم التضارب بين الدين الالهي الذي هو : ” من الوجهة العقلية نوع من أنواع الفلسفة في تعليل مظاهر الكون وتقدير نهايته ومصير النفس البشرية ” وبين الدين القومي الاجتماعي الانساني الذي يعني كما عبر عنه سعاده في كتابه نشوء الأمم : ” يقظة الأمة وتنبهها لوحدة حياتها ولشخصيتها ومميزاتها ولوحدة مصيرها . ”

لا يوجد تضارب بين الدين الالهي والمدني

ويظهر الخيط الفاصل الواصل بين الدين الالهي والدين القومي الاجتماعي ، ويظهر أيضاً بوضوح جلي اتجاه الدين الالهي واتجاه الدين القومي كما تظهر وجهة التكامل والهدف بين الأثنين الذي هو تشريف الحياة الانسانية في توطيد قواعد التحابب والتراحم والتآخي.
وفوق ذلك يظهر بوضوح التناغم والتكامل بين مفهوم الدين الالهي السليم ومفهوم الدين القومي الاجتماعي الصحيح في النظرة الى الحياة والكون والفن التي عبّر عنها سعاده بقوله :
“العقيدة القومية الاجتماعية،لم تتعرض للدين وعقائده وللعقائد الدينية،التي غرضها خلود النفس بعد ارتحالها من هذه الدنيا في مقامين مختلفين : مقام النعيم ومقام الجحيم ، فمن اراد النعيم ابتدأ ممارسة الايمان الذي يعتقد أنه يوصله اليه وهو بعد في هذه الدنيا فيهيء بهذه الطريقة خلوده في النعيم ، ومن أراد الجحيم ابتدأ يمارس المعاصي والكفر ، فلا المؤمنون يذهبون الى الجحيم بكفر الكافرين، ولا الكافرون يذهبون الى النعيم بايمان المؤمنين ،وأما الذين لم يؤمنوا ولم يكفروا ، فالبعض يقولون أنهم يذهبون الى الجحيم ،والبعض يقولون أن حساب الله يقرر لكل واحد منهم حسب أعماله ان خيراً فخيراً وإن شراً فشراً ، وما دام الحساب بيد الله ، فلنخفف قليلاً من غلوائنا فلعل الله يريد أمراً غير ما يريد عباده .
والدين نفسه اذ يجعل قاعدة الحساب يوم الحشر أو يوم الدينونة،هو نفسه يقر هذا المبدأ،مبدأ أن يختار الانسان بملء حريته اتجاهه والمصير الذي يريده لنفسه. ومن هذه الوجهة نرى أن لنا نظرة خاصة ليس فقط في الدين من حيث هو سياسي ، من حيث هو مؤسسات ، وليس فقط في هذه الناحية بل في الدين أيضاً من حيث هو اتجاه ديني ونظرة الى الحياة والكون والفن . ”
والدين السليم الالهي الذي يقر مبدأ أن يختار الانسان بملء حريته اتجاهه والمصير الذي يريده لنفسه لا يتعرض لأي عقيدة تعمل لخير المجتمع وتشريف الحياة فيه .
نصل الان الى انه لا يوجد أي تعارض بين أن أن يكون للانسان- الفرد دين الهي ودين قومي اجتماعي أي عقيدة دينية الهية وعقيدة دنويوية قومية اجتماعية ما دامت الغاية من كل منهما خير الفرد وخير المجتمع . دين الهي يولّد في نفسه الطمأنينة والراحة بعد رحيله عن عالم الوجود في رحاب الهٍ قدير محب رحيم عادل يؤمن به وبقدرته ومحبته ورحمته وعدله ، ودين قومي اجتماعي يحضنه في هذا الوجود في مجتمع هو الرحم الذي ولد منه والحضن الذي تتوفر فيه وتتحقق كل آماله وأمانيه في الحياة ، والمآل الذي يحفظ مآثره وانجازاته الدنوية ، والذكرى الطيبة التي تخلد في الوجود بخلود المجتمع .
نهج المدرسة القومية الاجتماعية الوضوح
نحن في نهج مدرستنا العقلية نقدّس الوضوح اذا كان هناك من تقديس . والتقديس ليس عيباً لأنه يعني الدائم على مدى الأيام والسنين. ولأن الوضوح يعني الجلاء الذي يهدي الى معرفة الحقيقة التي لا تقوم الا بتوفر شرطيها : الوجود والمعرفة .
والحقيقة في مفهومنا هي قيمة انسانية كبرى دائمة لنا ومقدسة بديمومتها. فكل وجود ليس واضحاً وجلياً لنا ولا معرفة لنا به ، لا نعتبره حقيقة وان كان حقيقية لغيرنا من الكائنات الأخرى غير الانسانية لأن الحقيقة بالنسبة لنا هي قيمة اجتماعية انسانية اي حقيقة انسانية .
لا نستطيع أن نجزم بالاعتراف بحقيقة شيء الا اذا كان موجوداً في الأصل وتمت معرفتتنا له فاعطيناه قيمة انسانية بمعرفتنا له وهذا يتفق مع قول سعاده :
” في العقائد التي تمت إلى الإنسان الحر بصلة لا يمكن الاستناد إلى أي قول استبدادي مطلق لتقرير حقيقة إنسانية لها علاقة بالإنسان المجتمع . فلا بد لقيام الحقيقة من شرطين أساسيين: الأول الوجود بذاته أي أن يكون الشيء موجوداً. والثاني أن تقوم المعرفة لهذا الوجود . والمعرفة هي التي تعطي الوجود قيمة لا يمكن أن تكون له بدونها ”

اسباب نهوض وتخلف المجتمعات

عندما نصل الى هذا المستوى العالي من الوضوح والجلاء يسهل علينا فهم وادراك كيف تنهض الأمم وكيف تتخلف . تنهض بيقظتها ووعيها فتختار كل ما يناسبها وينفعها بالمعرفة ، وتتخلف بخمولها وتخاذلها وتحسب بجهالتها كل ما يضرها نافعاً ومفيداً . والشعوب الاوروبية التي نهضت لم تنهض لا بفلسفة ابن رشد وان استنارت ببعض أقواله ولا بفلسفات غيره بل نهضت باستعدادها وامكانياتها ومؤهلاتها وجهادها . وفي مقال للمعلم سعاده عنوانه ” حق الصراع هو حق التقدم ” قال فيه :
” إن الأمم التي هي اليوم أمم قوية كبيرة لم تكن كذلك من أول وجودها بل صارت بجهادها وتغلبها على الصعوبات والظروف المؤاتية والفرص السانحة ، وبسعادة الحظ أحياناً،وبالحروب الاستعمارية وبالثورة الصناعية والاقتصاد القومي فهل يجب أن يقف التطور عن فعله وأن يجمد العالم عند الحد الذي تريده الأمم والدول العظمى ؟ وهل يجب أن تحرم الأمم الثقافية التي كانت عظيمة في الماضي كالأمة السورية من العودة الى عظمتها من أجل المحافظة على السلام الذي ينعم بخيراته غيرها وتشقى بحرمانه هي من الخيرات التي هي حقها وجزاء انتصارها ؟ ”
وبناء على ما تقدم ، وبالرغم من ان سعاده وضع فلسفة عملية وليس فلسفة تاملية لم يصل الى وضع مثلها اي فيلسوف آخر في التاريخ من الكمال والتمام والشمول فقد قال في جلسة 14 آب سنة 1948 : ” إن الذين حولنا يقولون انه ليس في الحزب من شخص مفكر عامل سوى الزعيم . وانه في حال غياب الزعيم تنشل حركة الحزب . ان هذه الحالة لا تعطي الحزب القوة والثقة الجدير بهما . إن الزعيم لا يريد أن يرى نفسه المفكر الوحيد في الحزب ، وأن يقال ان الحزب لا يساوي شيئاً بدونه ”

فلسفة أنطون سعاده فلسفة عملية صراعية

وقال أيضاً : ” لا أريد لكتبي ان توضع على رفوف المكتبات ” بل أسس فلسفة حياة جديدة سورية قومية اجتماعية وصفتُ حقيقتها في مقال نشر تحت عنوان ” فلسفة الحياة” في 5 أيلول سنة 2001 أنها : فيلسوف، ونظرة شاملة ، وتلامذة هم جنود تحقيقها على الشكل التالي :
” فيلسوف نابغة عبقري تفلت من حدود الزمان والمكان فوصل الماضي الأصيل الرائع بالحاضر النهضوي الأروع فكان فيلسوفاً وقائداً وقدوة للمستقبل .”
” ونظرة شاملة الى الحياة والكون والفن ، تناولت المسائل الكبرى في الوجود بتعاليم فلسفية راقية منبثقة من نفسية خيّرة جميلة، آفاقها آفاق العظمة ، اشتملت على حقيقة أساسية صالحة لانشاء عالمٍ جديدٍ من الفكر والشعور ، فكان هذا العالم فوق العوالم الماضية ، ودرجة لا يمكن أن يكون ويقوم بدونها أي عالم تطوري أجد آخر الا على أساسها .”
“أما تلامذتها الجنود فهم الذين فعل فيهم الحافز الروحي المستمد من فلسفة الحياة الجديدة هذه ، وأدركوا المثال الأعلى الذي تشتمل عليه هذه النظرة الجديدة ، فكانوا أبناء وبنات الحياة الجديدة ، وصانعي الحاضر الجيّد والمستقبل الأجود ، وكانوا الكائن الفلسفي الحيّ المؤهل لتحقيق بعث نهضة الأمة ، وحمل رسالة الهدى الى الأمم والشعوب ”
مصدر فلسفة سعاده خطط النفسية السورية
ان هذه النظرة لم تشذ أبداً عن خطط النفسية السورية الحضارية الراقية ،ولا رسالاتها السابقة الدينية الالهية الماورائية والوجودية الدنيوية التمدنية بل أوجدت نهضة تستمد روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي غير متنكرة لأي حق وخير وجمال اشتملت عليه تلك الرسالات فجعلت من الرسالتين الدينيتين المسيحية القائمة على المحبة والمحمدية القائمة على الرحمة ديناً واحدا برسالتين تدعوان الى تمجيد الهٍ واحد محبٍ رحيمٍ جعل الناس أمماً وشعوباً ليتعارفوا ويتراحموا ويتبادلوا المحبة بينهم كما يتآخى أبناء كل امة فيما بينهم تآخيا قومياً اجتماعياً هو الأساس المتين الذي يبنى عليه التعارف والعلاقات الانسانية بين جميع امم الانسانية على كوكب الأرض .
فاذا قصّر رجال الدين في فهم أغراض الدين وخلطوا بين ” قواعد الشؤون الانسانية ومقتضيات نوع الحياة البشرية وحاجاتها المتباينة او المتقاربة التي لم يشذ عنها وبين تعليل مظاهر الكون وتقدير نهايته ومصير النفس البشرية” فان هذه الفلسفة الكلية الشاملة لا تحكم على الرسالات الدينية التي قامت على المحبة والرحمة بالبطلان المطلق ولو قصّر واخفق المتدينون المؤمنون بهذه الرسالات في فهمها والعمل بها لأن قولها بالاخاء القومي الاجتماعي الجامع والموحد للمحبة والرحمة وصراعها في سبيل الاخاء القومي الاجتماعي لا ولن يرضى بذلك . وكم كان أديبنا الكبير جبران خليل جبران مصيبا عندما قال : ويل أمة كثرت فيها الطوائف وقلّ فيها الدين ”
واضح وصحيح أن سعاده قال : ” ان العقل في الانسان هو نفسه الشرع الأعلى والشرع الأساسي، هو موهبة الانسان العليا. هو التمييز في الحياة . فإذا وضعت قواعد تُبطل التمييز والإدراك ، تُبطل العقل، فقد تلاشت ميزة الانسان الأساسية وبطل أن يكون الإنسان إنساناً وانحط الى درجة العجموات المُسيَّرة بلا عقل ولا وعيّ .”
ولكن الانسان الذي عناه سعاده هو الانسان- المجتمع – الأمة ، والامة لها تعريف وهوية ،والعقل البشري ليس عقلاً مطلقاً كما عند ابن رشد وغيره من فلاسفة العقل ، بل العقل اليشري في نظرة أنطون سعاده المادية الروحية القومية الاجتماعية هو عقل مركّب من عقول مجتمعات الأمم . والعقلية البشرية هي أيضاً عقلية مركّبة من عقليات الأمم .
مفهوم العقل عند سعاده عقل انسان- مجتمع

وهذا ما كتبه سعاده عن العقل البشري الذي هو البشرية في مجلة المجلة في سان باولو في البرازيل في نيسان سنة 1925 تحت عنوان
” العقل البشري هو البشرية”
” ان الأمم والشعوب متى كانت منفردة ، أي معتزلة الواحدة منها عن الأخرى ، لا يمكن أن تتالف منها وحدة تُسمّى ” البشرية “أو ” الآنسانية” على الاطلاق
فالانسانية وتطورها باعتبار انها تركيب كامل لا يتم الا اذا كانت اجزاؤها أو الأمم التي تكوّنها مترابطة ترابطاً تاما بتلك الواسطة الاساسية التي تُسمى العقل البشري .
فالعقل الانساني هو الانسانية كلها متى كانت اقسامه على اتصال بعضها ببعض بما يطلق عليه اسم افكاراو خواطر تسير بين الأمم كلها .
فاذا لم يكن ذلك ، بطل ان يكون هناك انسانية بمعناها العصري ، واقتصرت لفظة الانسانية على التعبير عن الانسان تمييزاً له عن الحيوان .
ولا يتسنى لأجزاء العقل البشري ان تكون على اتصال بعضها ببعض الا اذا توفرت لها وسائل التفاهم التي تحمل الى العقل السوري أو العقل المصري فكر العقل الانكليزي او الالماني مثلاً .
لا نظن انه يوجد أمة ترضى اعتزال العالم لو خُيِّرت ، أو تتمكن من ذلك اذا عقدت النيّة عليه .
بناء عليه ، كان واجب كل أمة أن تُسهّل وسائل التفاهم بينها وبين الأمم الأخرى الغريبة عنها ، وبناء على هذه النظرية كان واجب الأمم الناطقة بالضاد أن لا تُقصّر في التفاهم مع الأمم الأخرى . ”
هذا هو مفهوم العقل عند سعاده . عقل قومي اجتماعي معيّن بكل مجتمع وليس عقل مبهم مطلق غير معيّن بمجتمع معيّن . المجتمعات القومية متعددة والعقول تتبع مجتمعاتها . فاذا توحدت العقلية في مجتمع من المجتمعات كان العقل القومي الاجتماعي عنصراً أساسيا في وحدة المجتمع.
المجتمعات متعددة والثقافة تتبع مجتمعاتها فاذا توحدت الثقافة والدين ثقافة صار الدين عنصرا مهماً في وحدة المجتمع . ويحصل عكس ذلك عندما تتضارب العقليات وتتعادى الثقافات الدينية ويؤدي التضارب والعداوات الى تخلف المجتمع والتفتت والتقهقر ، وبحصول هذا التضارب والتنافر ، لا ينفع المجتمع لا مفهوم العقل عند ابن رشد ولا مقولات العقل عند غيره ، ولا مفاهيم وخزعبلات من يدعي مراءاةً ونفاقاً الايمان برسالة المسيح ورسالة محمد اللتين وحدت بينهما رسالة الاخاء القومي الاجتماعي وجعلت منهما دين الحياة السورية الجديدة التي تمجّد الله المحب الرحيم الذي لا يرضى لأبناء أمتنا الا حياة الحق والخير والجمال والتقدم والرقي والتسامي .
الرفيق يوسف المسمار
البرازيل في 29 آذار 2020

إقرأ أيضاً

الطبعة الثانية من كتاب : العالم الاجتماعي والفيلسوف أنطون سعاده

صدور الطبعة الثانية في البرازيل من كتاب العالم الاجتماعي والفيلسوف انطون سعاده اعداد وترجمة الرفيق …