أنطون سعادة باعث نهضة وليس مُنظّر فكر

 

أنطون سعاده معلم وقائد نهضة عملية

وليس مُنَظّر فكرٍ وفيلسوف كلام

 

صديقتي العزيزة المحترمة

تحية العقل المنفتح والفكر الأصيل

أشكرك على رسالتك اللطيفة المؤرخة في 19 / 01/ 2019 وعلى اهتمامك بوضع دراسة تحليلية لفكر أنطون سعاده واجراء مقاربة بين فكره وأفكار بعض المفكرين أمثال الفيلسوف الألماني “هيغل” ،مع طلبك معرفة رأيي في الموضوع ، ومعرفة من هم أهم المفكرين الذين أثّروا في انبثاق فكر سعاده .

 

اليك يا عزيزتي بعض ما يمكن أن أقدمه لك بالنسبة لطلبك .

لقد أصبح واضحاً في هذا العصر ان الهلال السوري الخصيب الممتد من جبال طوروس في الشمال الفاصلة بيننا وبين تركيا الى قناة السويس والبحر الأحمر والخليج في الجنوب ، ومن جبال البختياري وزوغروس في الشرق الفاصلة بين بلادنا وبين بلاد فارس في الشرق الى البحر المتوسط وجزيرة قبرص في الغرب هو مهد الحضارة الانسانية التي تعود الى بدء التاريج الجلي والتي وُلدت فيها حروف أبجدية الكتابة ،وابجدية القوانين الانسانية ، وابجدية رسالات الحكمة الانسانية ومختلف المعارف الأساسية والعلوم والفنون مما جعل أديبنا الفيلسوف جبران خليل جبران يقول في رده على سؤال وُجّه اليه:”هل تعتقدون ان نهضة الاقطار العربية قائمة على اساس وطيد يضمن لها البقاء ام هي فوران وقتي لا يلبث ان يخمد” حين قال:” في عقيدتي ان ما نحسبه نهضة في الاقطار العربية ليس بأكثر من صدى ضئيل للمدنية الغربية الحديثة ، ذلك لأن هذه النهضة المباركة لم تختلق شيئاً من عندها، ولم يبن منها ما كان موسوماً بطابعها الخاص، او ملونا بصبغتها الذاتية. والاسفنجة التي تمتص الماء من خارجها وتنتفخ قليلاً لا تتحول الى ينبوع ماءٍ حيّ . أما ذاك الذي يرى في الأسفنجة نبعة فهو أحوج الى الرمدي وعقاقيره منه الى صاحب هذا المقال ونظرياته في الاجتماع ” كما ورد في الكتاب الذي صدر عن دار الهلال في مصر سنة 1923 تحت عنوان ” فتاوي كبار الكتاب والادباء ” في موضوعين: الموضوع الأول حول مستقبل اللغة العربية، والموضوع الثاني حول نهضة الشرق العربي وموقفه ازاء المدنية الغربية .

نفهم من كلام جبران أن النهضة الحقيقية هي التي تخلق وتختلق شيئاً جديداً من عندها يتسم بطابعها الخاص وطبيعتها المميزة،وأن الانسان الناهض هو الذي يُوَلّد شيئاً جديداً ينبع من ذاته ولا يُستعارمن خارج ذاته. فاذا استعاره من خارجه بطل أن يكون من ابتكاره وتوليده وابداعه .

اعود الى جبران خليل جبران في المقال نفسه حيث قال:” لو اتيح لنا الوقوف هنيهةً على قمة من قمم التجريد مستعرضين مآتي العصور الغابرة لرأينا أن نهضات الأمم ووثباتها لم تكن بما أوجدته لمنفعة خاصة بها ، أو لمجد محدود بحدودها وتخومها ، بل كان بما تركته إرثاً للأمم التي جاءت بعدها ، وعلمنا أن زبدة العهد الذي كان فجره في بابل ومساؤه في نيويورك هي بالحقائق العامة الشاملة التي اكتشفها الانسان وأثبتها، وهي بالجمال المطلق الذي رآه في الكيان فوضعه بقوالب خالدة وأوقفه أبراجاً ذهبية أمام وجه الشمس. الى أن يقول : “كان يسوع الناصري نهضة من ليس لهم نهضة ولا وطن ، ويسوع الناصري لم يزل ناهضاً. وكان محمد نهضة العرب ومحمد لم يزل ناهضاً “.

ويكمل جبران خليل جبران رأيه في النهضة فيقول:” إن النهضات بالمصادر لا بالفروع ، وبالجوهر الثابت لا بالأعراض المتقلبة ، وبما ينشره الوحيّ من غوامض الحياة لا بما يحوكه الفكر من الرغائب الوقتية ، وبالروح المبدع لا بالمهارة المقلدة ، فالروح خالد وما يبيّنه الروح خالد ، أما المهارة فقشور مصقولة تزول ، وما تعكسها على أديمها المصقول فأخيلة تضمحل “.

بعد هذه الرؤية الجوهرية التي تجلت لجبران خليل جبران هل كان يسوع الناصري ومحمد اسفنجات امتصت فكر النهوض من غيرها وانتفخت قليلاً ثم ذبلت وذوت أم كانا ينابيع نورٍ حيّ وفكرٍ جديدٍ ملهم حتى استحقا أن يكونا بما قدّماه من قيمٍ للأنسانية نبعين حضارين وليس بمن يدّعي تمثيلهما زوراً ويتكلم باسمهما مراءاة ونفاقاً ؟

وهل كانت نهضات يسوع ومحمد الكنعانيين الآراميين السوريين الا النهضات بالجمال المطلق الذي رآه الناهضان في كيانيهما وصبّا هذا الجمال في قوالب خالدة وشيّدا به أبراجاً من الجمال والقيم الجميلة المتألقة أمام وجه الشمس ؟

النهضة يا عزيزتي تكون بالروح المبدع وليس بالمهارة المُقلّدة . النهضة تكون بالتوليد والخلق والابتكار وليس بالتأثر والاقتباس والاستيراد والاستعارة . يسوع الناصري في رسالته لم يكن متأثراً بأحد من الناس أو مقتبساً عنه أومستعيراً منه أو مقلّداً اياه . ولو كان متأثراً ومقتبساً ومستعيرا ومقلداً لما كان هو نفسه يسوع الناصري. ولما كان وثق به ربّ العالمين وحمّله تلك الرسالة الروحية التي غيّرت مسار التاريخ الانساني ، وكذلك لو لم يكن محمد جديراً بأن يحمل رسالة دين يقول : ” لا اكراه في الدين ” لما كانت رسالته رسالة نهضة .

والحقيقة أنه لو كان تلامذة المسيح وأتباعه صادقين في مسيحيتهم وعياً وايماناً وداخلية وقولا وممارسة وأفعالاً لما كان من الضروري أن يظهرمحمد برسالته المحمدية . ولو كان تلامذة المسيح ومحمد نهضويين مؤمنين نوايا وأقوالاً وأفعالاً وممارسات لما كانت بلادنا اليوم وشعبنا بحاجة ضرورية الى انبثاق نهضة جديدة تنقذ الأمة من الظلمة التي هي فيها الى النور الذي أتى به السيد المسيح وأغمضت الغالبية عيونها عنه ولم تره بالرغم من أن لهم عيون ، والى مكارم الاخلاق التي جسّدها محمد في كل تصرّفاته ورفضها أتباعه بعده بالرغم من تشدقهم بها ليل نهار وترديدهم قول : ” الأمر بالمعروف والنهيّ عن المنكر ” وفعلهم كل ما هو مخالف ومعاكس ” للأمر بالمعروف والنهيّ عن المنكر”

أعود الى هذا المقطع من جواب جبران خليل جبران الذي يقول فيه: “لقد طرحت الكثير من أفكاري بين ملتويات الاعوام الثلاثة الأخيرة، أما هذه الفكرة فلم تزل تلازمني ، فما خشيته وتبرمت منه اذ ذاك أخشاه واتبرم منه الآن . بل هناك أمر أدعى الى الوجل والقنوط ، وهو أن أوروبا في أيامنا هذه تُقلّد أميركا وتتبع خطواتها بينما الشرق العربي يُقَلّد أوروبا وينحو نحوها . أعني أن الشرق العربي صار مقلداً للمقلدين وظلاً للأظلال . أعني أن الأسفنجة قد أصبحت لا تمتص من الماء إلا ما يتسرب اليها من الاسفنجة الأخرى،وهذا منتهى الضعف والاتكال على الغير . بل هذه منتهى الغباوة والعماية لأننا في غنى عن الاستعطاء فضلاً عن استعطاء المستعطي ” الى أن يقول: ” في منزلنا القديم ، كنوز وذخائر وطرائف لا عداد لها ولكنها مشوّشة متراكمة محجوبة بغشاء من الغبار . ومن المعلوم أن الغربيين قد أتقنوا فنّ الترتيب حتى بلغوا أقصى درجاته ، فهم ان رتّبوا عيوبهم ظهرت كأنها حسنات جليلة ، وان رتّبوا حسناتهم بدت كأنها معجزات رائعة . فاذا كان لا بد من الاقتباس فلنقتبس هذا الفن عن الغربيين بشرط ألاّ نقتبس سواه

يفيدنا كلام جبران ان ” العهد الذي كان فجره في بابل أصبح مساؤه في نيويورك ” وأن شعوب العالم اليوم تسير باتجاه المساء وحلول الليل وليس باتجاه الفجر . والفجر الذي بلغ ذروته في الرسالتين المسيحية والمحمدية وتعاليمهما الروحية والاخلاقية والمعرفية والعلمية يميل الى الغروب بسبب غباء وعماية أتباع المسيح واتباع محمد وخاصة في بلادنا حيث يعيش المسيح ومحمد في سرداب عميق يمنعهما من الاتصال بأبناء مجتمعنا ، ويمنع أبناء المجتمع من الوصول اليهما أو معرفة انهما سجينان ولا يزالان على قيد الحياة ناهضان بتعاليمهما النورانية الأخلاقية العالية التي هي الكنوز والذخائر والطرائف والابداعات الضرورية والاساسية لليقظة والنهوض . ولكن تلك الكنوز والذخائر النهضوية منسية ومهملة ومهجورة منذ زمن طويل ومتراكمة ومغمورة تحت طبقات تاريخية من غبار رداءة الأعراف والعادات والتقاليد والخرافات والاوهام والاحقاد والضغائن والعنجهيات حتى وصل مجتمعنا الى أن يصبح في مؤخرة الشعوب المقطورة بالقاطرة الأميركية – الصهيونية المسائية التي تجرّ العالم الى ليلٍ أبدي ليس بعده فجر حيث اصبحنا اسفنجنة تمتص ما يتبقى من الاسفنجة الأوربية التي تمتص بدورها روحها مما يتسرب من أطراف البحيرة الصهيواميركية المحظور الاقتراب منها حتى على الشعب الأميركي نفسه .

هذه الحالة المظلمة هي التي دفعت انطون سعاده لأن يكون رجل نهضة أمة من بين طبقات ركام أزمنة الويل الذي حجب كنوزنا وذخائرنا ومآثرنا وجعلنا نتدحرج من هاوية عميقة الى هاوية أعمق   ونتقهقر من ليلٍ حالك الى ليل أشد ظلمة وحلكاً وعفناً ، ولم يعد بالامكان الخلاص والخروج الا بحركة نهضة حياتية عظيمة تتناول الحياة بكليتها مادة وروحاً بنظرة كلية بديعة شاملة مبتكرة ونظام بديع لا يقوم على التضخم والتراكم والانتفاخ بل يقوم على قواعد حيوية ويعتمد على القوة الحقيقية التي هي :” قوة السواعد والقلوب والأدمغة … نظام قومي اجتماعي بحت ، لا يقوم على التقليد الذي لا يفيد شيئا ، بل على الابتكار الأصلي الذي هو من مزايا شعبنا ” فكان أنطون سعاده بهذا الأمر رجل نهضة أمة ورجل فكر متحرك يتحرك وينمو ويتقدم في الحياة بوعيّ وبطولة وقائد حركة نظامية واعية مفكرة قومية اجتماعية تعمل باصرار وايمان واخلاص لصيانة مصالح المجتمع كله وليس رجل كتابة كتب توضع على رفوف المكتبات ويتسامر بدراسة مواضيعها أساتذة الجامعات وطلاب المدارس والهواة من الذين يحبون قراءة الرويات والقصص وأشعار الغرام والمقالات في شتى المواضيع .

صحيح أن أنطون سعاده كان عالماً اجتماعياً وفيلسوفاً ومفكراً في الوقت نفسه بنى عمارته الفكرية والفلسفية على العلم وليس كغيره من الفلاسفة السابقين الذين أشادوا بناياتهم الفلسفية على التأمل والتصوّر والافتراض، ولكن فكر أنطون سعاده لم يكن من اجل الفكر، ولا فلسفته من اجل الفلسفة ،ولا علمه من أجل العلم، ولا كتاباته من اجل الكتابة ،ولا جهاده وتضحيته من أجل الجهاد والتضحية، بل ان فكره وفلسفته وعلمه وفنه وكتاباته وجهاده وتضحيته واستشهاده كانت كلها من أجل تحقيق نهضة مجتمعه . واذا كان من تأثير لأحد عليه فقد قالها صراحة : ” أنا مدين بكل ما أملك لأمتي ” وجعل هذا الدين على كل من انتمى الى الحزب السوري القومي الاجتماعي حين قال: ” كل ما فينا هو من ألامة وكل ما فينا هو من الأمة . الدماء عينها التي تجري في عروقنا هي وديعة ألامة فينا متى طلبتها وجدتها ” وقد كان صادقاً في قوله : ” لقد أتممت رسالتي وأختمها بدمي ” عندما واجه حكم الاعدام بأوامر خارجية دون محاكمة ونفّذ فيه حكم الاعدام في الثامن من تموز 1949 قبل أن يُوقّع مرسوم الاعدام الذي وقّع في التاسع من تموز بعد تنفيذ الاعدام بيوم .

وهذا ما دفع استاذ الدراسات العليا الدكتورلويس فرناندو لوبس بيريرا في الجامعة الفدرالية – كلية الحقوق في ولاية بارانا في البرازيل الى القول في دراسة له عن كتاب سعاده ” نشوء الأمم ”

Em tempos em que os discursos nacionalistas do ocidente e do oriente recorrem a elementos fundamentalistas e inflexíveis, em tempos de intolerância e segregação, essas lições de Saadeh são precisosíssimas e mostram como as transformações sociais e históricas deveriam ter um sentido diverso dos muros coloniais, das cercas civilizacionais e dos ódios raciais. Saadeh profeticamente sonhou com um mundo sem barreiras e muros, um mundo de uma verdadeira globalização e não desta que nos dá imperialismo sob a máscara de trocas culturais.

*– Professor do curso de graduação e do Programa de Pós-Graduação em Direito da Universidade Federal do Paraná- Brasil .

 

في الزمن الذي كانت فيه الخطابات القومية في الغرب والشرق تلجأ الى العناصر الأصولية المتزمتة المتصلبة وغير المرنة،في تلك الأزمنة التي سيطر فيها التعصب والتفرقة والتمييـز العنصري،طلع علينا سعاده بهذه الدروس القيِّمة التي لا تقدر بثمن،والتي تبيّن لنا كيف أن التحوّلات الاجتماعية والتاريخية يجب أن يكـون لها معنى مختلف عن المعاني التي ارتفعـت على جدران الاستعمار، وأسـوار المـدنية المنغلقة، وأحقاد الكراهية العرقية. لقد حلم أنطـون سعادة، نبوياً كما الأنبياء، بعالم ليس فيه حواجز ولاعوائق وعقبات، بعالم ٍ من العولمة الانسانية الحقيقية،وليس بعولمة تقدّمها لنا الامبـريالية الإسـتعـبادية تحـت قـناع ٍمن التبادل الثقافي .”

أما العلامة الدكتور يوسف مروة خلال مشاركته في ندوة فلسفية في أوروبا فقد قال” كشف أنطون سعاده منـذ بداية تفكيره الفلسفي على أن الوجود الإنساني ينطوي على ثلاثة ظواهـر أساسية مُتـتامة وموحـدة في كيانه وهي :

* الظاهرة الحسية التي تـتـعامل مع التـجـربة ومجالها العلم

* الظاهـرة العـقـلية التي تـتعامل مع الفكـر ومجالها الفلسفة

* الظاهرة النفسية التي تـتعامل مع الإلهام والإشراق والتبصر والحدس ومجالها الدين أوالعرفان أو الروحانيات ، ومن يحاول ان يفصل بين هذه الظواهـر ويتعامل معها كوحدات مستـقـلة ضمن الكيان الإنســاني، يكون كمن يشوّه الوجود الإنساني ويـدمِّـره…    

استطاع في فلسفته المدرحية أن يلغي مفهوم المادة المطلقة والروح المطلق ، واستـطـاع أن يـحـقـق التوحيد والارتباط بين المادة والروح ، وبين النفس والذات ، وبين الوعيّ والحياة ، وبين العقل والادراك الحسي ، وبين الله والطبيعة في علاقة منطـقـية فلسفية واحدة في الـوقت الـذي لا تـزال فيه الفلسفات الجزئية الأخرى تنظر الى كل ظاهرة من الظواهر كأنها مستقلة ومطلقة ”                  

وفي لقاء مع استاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية الدكتور كمال يوسف الحاج في ستينات القرن الماضي عندما كنت طالباً في كلية الحقوق وأكتب بعض الدراسات عن فلسفة سعاده أشار عليّ بقراءة مقالين كتبهما عن فلسفة أنطون سعاده : المقال الأول عنوانه ” سعاده ذلك المجهول ” والمقال الثاني ” سعاده الفيلسوف ” حيث ورد في مقال الدكتور كمال يوسف الحاج ما يلي :” لقد عرفنا الفلسفة، نحن ، في هذه الرقعة من الأرض ، عرفناها تحت سمائنا ، يوم جاء سعاده، وكانت الأمة كلها ترتقب تلك الساعة الرائعة . عرفناها يوم نظر سعاده، وشمل، وعقد، فكانت النظرة الشاملة … كانت العقيدة . يومها كانت غاية عُظمى ، فعلت ، فغيّرت وجه التاريخ . يومها ولجنا أبواب عصر جديد ، فكان عالم النور …

أجل عرفنا الفلسفة يوم قال سعاده في حركتنا قضية عظيمة مقدسة . ونحن نثبت في هذه القضية العظيمة المقدسة . ونحن ننمو من أجل هذه القضية العظيمة المقدسة. .ونحن، من أجل هذه القضية العظيمة المقدسة نحارب بالفكر … نحارب بالعمل … نحارب بكل وسيلة. وهل للحياة قيمة بدون قضية عظيمة مقدسة ؟ بدون مبدأ ؟ وبدون عقيدة ؟ هل للحياة قيمة بدون مثل منشود ؟ يومها عرفنا الفلسفة . يومها قال سعاده ما قصدت كره الأجنبي . اذ ليس من هنا يجب أن نبدأ . البداية الكبرى ليست بغضاً . البداية الكبرى هي في صهر العقائد المتنافرة … في سبكها نظرة واحدة تشمل كل فكرة … في صبها ، ثم امتشاقها رؤية جامعة تغمر الوجود رمة . البداية الكبرى هي في الحرية البيضاء . تلك هي المحبة . يومها وجدت الفلسفة عندنا . يومها ولدت ، تحت سمائنا ، وعاشت واستشهدت ، يومذاك استخلدت . منذ تلك الساعة الرائعة ، لم تعد المطامع الأجنبية قادرة على تفسيخ وحدتنا ، واضعاف قوانا . يومها قلنا للأغيار، بهدوء وشمم،ان فينا سراً عظيماً. يومها تانسنت قوميتنا. هذا هو سعاده الفيلسوف.بفضله عرفنا الفلسفة…ألا يجوز لنا القول بأن سعاده قد خلّف لقومه تركة فلسفية خالدة

لقد عرف العالم الفلسفة مع سقراط وافلطون وارسطو التلامذة الاغريق الذين تعلموا الحكمة في بلادنا في مدينة صيدا وعاشوا ردحاً من الزمن فيها فأطلق عليهم اسم فلاسفة أي محبي الحكمة ولكن بين الحكمة ومحبة الحكمة فرق كبير، وبين الحكيم ومحب الحكمة فرق كبير أيضاً . فليس كل من يحب العلم عالم وليس كل من يحب الأدب أديب ولا كل من يحب الحكمة حكيم بل الحكيم هو الذي يحيا الحكمة فيتطهر بها ضميره، ويتاّلق بها منطقه ويسطع بها تصرفه ومعاملته للناس جميعاً ولا يخاطب بها الا من يحترمها ويستحق سماعها فيتغذى بها ويغذي من يحبها ليترسخ وهج الحكمة ونورها بين الناس محبة وسلاماً . وبهذا نفهم أهمية قول السيد المسيح عندما قال : ” لا تتكلموا بالحكمة أمام الجهّال فتظلموها ، ولا تمنعوها عن أهلها فتظلموهم ،ولا تكافئوا ظالما فيبطل فضلكم

بلادنا امتازت بالحكماء . والحكماء هم أصحاب الرسالات الكبرى والتعاليم الأرقى التي باتباعها وتحقيق ومبادئها تتحقق نهضات الأمم. ولأن رسالات الحكمة تنبع من داخل الحكماء ولا يستوردونها من خارج نفوسهم فهم هم النهضة والناهضون وهذا ما يفسر قول جبران خليل جبران : ” كان يسوع الناصري نهضة من ليس لهم نهضة ولا وطن ، ويسوع الناصري لم يزل ناهضاً . وكان محمد نهضة العرب ومحمد لم يزل ناهضاً ” رغم تحوّل من ليس لهم نهضة ولا وطن بدون نهضة وبدون وطن، ورغم انهيار نهضة العرب وتخلّفهم عن أية نهضة حقيقية . لم يكن همّ أنطون سعاده الفكر من أجل الفكر والفلسفة من أجل الفلسفة والعلم من أجل العلم كغيره ممن يطلق عليهم مفكرين وفلاسفة وعلماء بل كان همّه تحقيق نهضة أمته لتكون مثالاً ونموذجاً في النهوض لغيرها من الأمم. لذلك لم يكتف بنهضة أمته بل أراد أن ينتقل مشروعها الى الأمم جميعها. ومن هذه الناحية أهتم بالفكر الذي يخدم العالم كله كما يخدم قضية امته لأن من لا يقوم بخدمة قضية أمته لا يمكن أن يخدم أية قضية . وقد سبقه الى ذلك رسل كبار من أمته دنيويون ودينيون في المعرفة والفضيلة والقانون والعلوم والفنون والآخلاقيات والروحانيات الدينية حيث بدؤا أولا في ترسيخ مفهوم رسالاتهم في بلادننا دون انغلاق ثم انطلقت تعاليمهم الى الأمم ليأخذ منها كل شعب حاجته، وما يستطيع استيعابه، وما ينسجم ويتلاءم مع عقليته ونفسيته من تعاليمها وأفكارها وخواطرها وحكمتها .

وهذا ما حصل أيضاً مع سعاده حين ابتدأ بتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي على أساس العقيدة القومية الاجتماعية والنظام القومي الاجتماعي على أساس الفلسفة المدرحية والنظرة الشاملة الى الحياة والكون والفن . بعد ملاحظته الدقيقة للفلسفات الجزئية التي قسمت العالم الى محورين متناقضين متحاربين مكفّرين بعضهما البعض ومتمترس كل منهما بفلسفة جزئية فردية مادية وأخرى فلسفة جزئية فردية روحية سببتا دماراً هائلاً للبشرية ولا تزالا حتى وقتنا هذا متعنتتين بسبب تعنتهما ومبتعدتين عن حقيقة الحياة الانسانية وحقيقة النمو والارتقاء الانساني الذي لا يمكن أن يكون مادياً بالمطلق ولا روحيا بالمطلق بل يقوم على أساس واحد واضح مادي – روحي أو روحي- مادي دون تجزئة بين المادة والروح، بل بضرورة الوحدة المادية الروحية أو باصطلاح واحد هو ” المدرحية” التي تعني حقيقة الانسان في الوجود أو الوجود الانساني الذي يستحيل وجوده روحاً فقط بدون مادة أو مادة فقط بدون روح لأنه وجود تفاعل موحّد نشوأً ونمواً وارتقاءً وبقاءً .

وهذاما قاله سعاده في هذا الشأن عن المذهب الفلسفي القومي الاجتماعي في خطابه في الاجتماع القومي الاجتماعي في نادي   ” شرف ووطن ” في بوانس ايريس الأرجنتين في شهر كانون الأول سنة 1939 ونشر في صحيفة الزوبعة في العدد 88 “:

 

” ان في سورية اليوم نهضة عظيمة تعيد الى الأمة حيويتها لتعود الى الانتاج والعطاء كما كانت تنتج وتعطي في الماضي .          

ان سورية تحمل اليوم الى العالم بنهضتها القومية الاجتماعية رسالة جديدة .                                                                  

هو ذا صراع عنيف هائل يستولي على العالم كله تقريباً شاطراً اياه الى شطرين لكل شطر منهما مصالحه العميقة في هذا الصراع ولكل جهة من المصالح نظريات ومباديء تتستر وراءها وتعلن أنها تحارب من أجلها .                                                      

اننا نشهد الآن صراعاً عنيفاً في حرب عالمية هائلة لم يسبق لها نظير بين نظرية الشيوعية والاشتراكية القائمة على الأساس الماركسي الذي يفسّر الحياة ويريد اقامة نظام جديد في العالم كله بالمباديء المادية ، ونظرية الفاشيين والاشتراكيين القوميين القائمة على الاساس المزنياني والنشوي الذي يُفسّر الحياة ويريد اقامة نظام جديد في العالم كله بالمباديء الروحية .                    

ان سورية لا تقف تجاه هذا الصراع الهائل واجمة واجفة .          

ان النهضة السورية القومية الاجتماعية تعلن ان ليس بالمبدأ المادي وحده يُفَسّر التاريخ والحياة تفسيراً صحيحاً ويُشاد نظام عام ثابت في العالم ، وانه ليس بالمبدأ الروحي وحده يحدث ذاك .      

اننا نقول بأن التاريخ والحياة يُفسّران تفسيراً صحيحاً بمبدأ جامع – بفلسفة جديدة تقول ان المادة والروح هما ضروريان كلاهما للعالم.                                                                        

اني أقول ان النظام الجديد للعالم لا يمكن ان يقوم على قاعدة الحرب الدائمة بين الروح والمادة – بين المبدأ الروحي والمبدأ المادي – بين نفيّ الروح المادة ونفيّ المادة الروح ، بل على قاعدة التفاعل الروحي- المادي تفاعلاً متجانساً على ضرورة المادة للروح وضرورة الروح للمادة-على اساس مادي- روحي يجمع بين ناحيتي الحياة الانسانية .                                    

بهذا المبدأ – بهذه الفلسفة- فلسفة القومية الاجتماعية – تتقدم النهضة السورية القومية الاجتماعية الى العالم واثقة انه يجد فيها الحل الصحيح لمشاكل حياته الجديدة المُعقّدة ، والأساس الوحيد لانشاء نظام جديد تطمئن اليه الجماعات الانسانية كلها وترى فيه امكانيات الاستقرار السلمي واطراد الارتقاء في سلّم الحياة الجديدة “.                                                          

لقد انقسم الفلاسفة أو ألأصح أن نقول محبي الحكمة وليس الحكماء بين مذهبين ، لأن الحكماء لا يتعاملون مع بعضهم بالعداء : المذهب الروحي والمذهب المادي .وأخذ كل فريق يراكم ذرائعه وحججه على صحة مذهبه الفلسفي المطلقة ناكراً على الفريق الآخر اي شيء من الصحة والصواب مما جعلهما يخرجان عن جوهر الحياة الانسانية ومسار نموّها وتطورها وارتقائها ونظام صعودها من الارض الى السماء فتكسرت الجوانح باستئثار كل جانح بادعاء صوابيته المطلقة، ولم تحصد الانسانية الا خراب العمران بشيوع الأحقاد التي ليس لها نتيجة الا دمار الكوكب الذي نعيش عليه .

الحكمة تقول بلسان يسوع :”ليس بالخبز وحده يحيا الانسان “. وهذه الحكمة تعني ان الانسان يحيا بالخبز والروح . والخبز والروح يعنيان وحدة الحياة الانسانية الروحية المادية . والحكمة تقول بلسان محمد : ” إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين” . وهذه الحكمة تعني أيضاً وحدة الحياة الانسانية المادية الروحية . فالحياة الانسانية لا يمكن أن تكون أو توجد وترتقي بنفي واستبعاد عنصر اساسي من عناصر الحياة، بل تكون وترتقي وتستمر بتفاعل العناصر الروحية والمادية . وهذا ما توصل اليه عقل أنطون سعاده المنفتح على مظاهر الكون والحياة والفن فقال بضرورة موقف الانسان السلبي من الكون الماثل أمامنا والسعي الى اكتشاف قوانينه وخفاياه المحجوبة عنا ، وقال بضرورة التعمق في فهم الحياة الانسانية وعمارها وبنائها بناء حقٍ وعدلٍ واتزان ، وقال أيضاً بالخلق الانساني وابتداع كلّ فنٍّ جميل يجعل حياة البشر أجمل وأجود وأرقى .

وهذا هو مذهب أنطون سعاده الحكمي الفكري الفلسفي حيث قال : ” تعاليم العقيدة القومية الاجتماعية تدعو الأمم الى ترك عقيدة تفسير التطور الانساني بالمبدأ الروحي وحده ، وعقيدة تفسيره من الجهة الأخرى ، بالمبدأ المادي وحده والاقلاع عن اعتبار العالم ضرورة ، عالم حرب مهلكة بين القوة الروحية والقوة المادية ، والى التسليم معنا بأن أساس الارتقاء الانساني هو أساس روحي- مادي (مدرحي) ، وان الانسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه . ليس المكابرون بالفلسفة المادية بمستغنين عن الروح وفلسفته ولا المكابرون بالفلسفة الروحية بمستغنين عن المادة وفلسفتها”  

على ضوء ما تقدم يتضح أن أنطون سعاده هو حكيم ومعلم وقائد وانسان نهضة وهذا يعني في الوقت نفسه انه مفكر وعالم وفيلسوف وضع لشعبه قواعد عهد جديد للنهوض ولم يخش مواجهة الموت عندما وجد ان في موته انتصاراً لرسالته العظمى وليس منظّر فكرٍ وفيلسوف كلام .

يوسف المسمار

البرازيل في 20 /01/2019

إقرأ أيضاً

Imensa e generosa obra do sociólogo e filosofo Antoun Saadeh

Imensa e generosa obra do sociólogo e filosofo Antoun Saadeh عمل عظيم وسخي للعالم الاجتماعي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *