مفهوم الحرية في فلسفة أنطون سعادة المدرحية القومية الاجتماعية

 

مفهوم الحرية

في فلسفة أنطون سعاده                               المدرحية القومية الإجتماعية

 

كثر الحديث عن الحرية والحريات،والمنظرون يتكاثرون يوماً بعد يوم ، والغالبية الساحقة من المنظرين يرون انهم يملكون ناصية الحق والصواب، والقلة النادرة منهم يعترفون بحدودهم ويقفون عندها ويسعون الى معرفة أعمق وأوسع وأبعد مدى.

وبما ان مفهوم اية قضية من قضايا الفكر يخضع الى النظرية التي تنطلق منها أي من نظرة الى الوجود والحياة والكون ،ودور الانسان في الوجود والحياة والكون ، وتصوّره المنبثق من النظرة الى مستقبل الوجود والحياة والكون، ورسالته ومهمته في فهم الوجود والنهوض بالحياة وسبر اغوار الكون وابداع ما تمكّنه مواهبه من ابداعه للوصول الى ما هو أجود وأحسن وأصلح وأجمل ، فان أي مفهوم يظل مقيّدا بالنظرة الفلسفية الاساسية التي انطلق منها .

 

الوعيّ السليم شرط ضروري للمعرفة والفهم

 

فالانطلاق من نظرة غيبية غير الانطلاق من نظرة وجودية ، والارتكاز الى فلسفة جزئية غير الارتكاز الى فلسفة شاملة . والاعتماد على فلسفة فردية غير الاعتماد على فلسفة اجتماعية. والأخذ بنظرية افـتراضية غير الأخذ برؤية طبيعية للواقع . ولذلك فان مفهوم اي قضية يتدرج من الفهم الفردي الى الأسروي الى العشائري فالمكاني فالاتني فالتكهّني الغيبي فالطائفي فالملي فالديني الى غير ذلك من التجمهرات والتجمعات …ولذلك فان مفاهيم الحرية ليست واحدة ووحيدة المعنى والاصطلاح والقصد .

ونظراً لذلك فقد استقر الرأي في مكتب الطلبة في الحزب السوري القومي الاجتماعي في العهد الشهابي الارهابي المجرم على أن يكون عملنا التثقيفي الاذاعي بين أوساط الطلبة في لبنان مبنياً على الوضوح والتوعية السليمة والتوضيح الصحيح لفلسفة العقيدة السورية القومية الاجتماعية ومبادئها ومنهاجها وغايتها خصوصاً بعد توزيع سلطة العهد الشهابي المجرم مناشيره على كل الارض اللبنانية وبعثاته الدبلوماسية هذا المنشور الذي قال فيه :”من آمن بالمسيحية فهو كافر، ومن آمن بالاسلام فهو أكفر،ومن آمن بلبنان فليس منا. ديننا الحزب القومي السوري “ كما جاء في المنشور الذي وزعته السلطة اللبنانية متذرعة انها وجدته بين اوراق قادة الحزب آنذاك، وكل هذا لتزوير حقيقة الحزب وتشويه صورته امام الشعب في لبنان، واثارة الغوغاء والحاقدين على فكرة وغاية الحزب وأعضائه الذين تعرّضوا لأقسى أنواع الظلم والاضطهاد .وهذه عيّنة صغيرة من مآثر العهد الشهابي التي يجب ألا تنسى .

 

وبناء على ما تقدم تم التركيز في مكتب طلبة الحزب في الحلقات التثقيفية الاذاعية على فاتحة لكل الحلقات التثقيفية التي كنت متحدثاً فيها أو كان متحدثاً فيها غيري على موضوع التوعية السليمة بطرق وصيغ كلامية مختلفة قبل البدء بموضوع الحلقة المخصصة للموضوع . وأذكر ان الرفيق بهيج ابو غانم بعد تسلّمه مسؤولية رئاسة شعبة الطلبة الثانويين سنة 1968 قال لي:” لقد قيل لي من بعض الطلبة ان الرفيق يوسف يكثر الحديث عن التوعية،ودائما قبل ان يدخل في الموضوع يعيد موضوع التوعية والوعيّ فكأنه يكرر نفسه ويظهر انه يحفظ المقدمة عن ظهر قلب “. فكان جوابي يومها عبارة المعلم سعاده الذي قال في محاضرته الأولى:” المعرفه والفهم هما الضرورة الأساسية الأولى للعمل الذي نسعى لتحقيقه “. فبدون الوعيّ والمعرفة والفهم لا نستطيع تحقيق شيء .

 

وللحقيقة أقول انني والرفيق جوزيف بابلو شكّلنا فريق تثقيف اذاعي متكامل بيني وبينه في فترة الستينات مهمتنا توضيح فكر المعلم أنطون سعاده بأسلم وأبسط وأوضح وأوسع وأعمق ما نتمكن منه . فكنّا نعدّ ونحضّر الحلقات الفكرية التثقيفية ونتناقش بها وحولها قبل ان نلقيها ارتجالاً في أوساط الطلبة ليتمكن الطلاب من الفهم الأصح والأعمق لمضامين رسالة سعاده المدرحية القومية الاجتماعية ، كما كنا نتناقش مع غيرنا من أعضاء مكتب الطلبة وبعض الامناء وزيارة بعض الأمناء والرفقاء القوميين الاجتماعيين المشهورين بفهمهم للعقيدة القومية الاجتماعية من امثال جورج عبد المسيح ومحمد يوسف حمود والياس جرجي قنيزح ومصطفى عبد الساتر وعلي نزهة وهنري حاماتي وعبدالله محسن وزكريا اللبابيدي ،كما كانت لي زيارات خاصة للأمناء عبدالله سعاده وأسد الأشقر وانعام رعد في السجن . وكان التدارس الأهم يحصل بيني وبين الرفيق جوزيف بابلو الذي كانت والدته تخاف عليه كثيراً لأنه وحيدها بين سبعة شقيقات نذرت واحدة منهن لتكون راهبة قبل ولادة جوزيف. وعندما وُلد جوزيف التحقت شقيقـته بالراهبات وذهبت الى فرنسا ولم تر شقيقها جوزيف ولا هو رآها الا بعد ان بلغ الواحدة والعشرين من عمره . وكانت والدته لا تأمن عليه الا عندما نكون سوياً ، وتوصيني دائما ان اكون معه ولا أدعه يتعاطى مع الناس الهمج الذين لا أرى من المفيد ذكرهم .

 

وكان انطلاقنا في الحلقات التثقيفية الاذاعية مما ورد لسعاده في كتاب”شروح في العقيدة “صفحة 187 التي قال فيها :” ان النهضة لا تُبنى الا على أساس متين .مهما استغرق وضع الأساس فلا بد من وضع الأساس . نحفر في الأرض الى أن نصل الى الصخور المثبتة التي يمكن أن نؤسس عليها البناء المتين الذي نتصور . اننا لا نضيع وقتاً في هذا العمل . غيرنا يبني على سطح الأرض . يجمع أقواماً من الرجال في برهة وجيزة وكيفما اتفق . من الرجال المتعددي النفسيات يظن أنها تقدر على عمل يمكن أن يُسمى فتحاً أو انتصاراً ،والسير بها جماهير لا أول لها ولا آخر . وحالما تصل هذه الجيوش الى مواجهة الخطوط الأولى يظهر ضعفها ، وتفسّخ نفسياتها ، وتشوّش عقلياتها ، وتضارب أفعالها وخططها ، فترتطم وتصدم وترتد أمام الأعمال النظامية التي يقوم بها الأعداء . فتضمحل واذا هي لا شيء . تطير هذه الجيوش أمام قوة قد تكون أقل منها بكثير .”

 

اقتصرت محاضرات الرفيق جوزيف على العلوم الاجتماعية والفكرية انطلاقا من نظرة سعاده ، وكانت مهمتي التثقيفية تناول المسائل الفكرية ايضاً والفلسفية والدينية والاقتصادية دون ان يعني ذلك اننا لم نتشارك في اعداد المحاضرات وفي كل الأمور. ولا أخفي سراً اننا كنّا ندرس كتابيّ الانجيل والقرآن دراسة علمية بحثية دقيقة لفهم اقصى ما يمكن فهمه من دراستهما الى ان استقر الأمر على أن ينصرف الرفيق جوزيف الى مواضيع علم الاجتماع ويترك لي أمر توضيح المفهوم الديني عند سعاده عندما يتطلب ذلك . ومن جملة المواضيع التي تحدثت فيها يومها عن مفهوم الحرية في الفلسفة المدرحية القومية الاجتماعية ورسالتها ، ومفهوم الواجب القومي الاجتماعي . ومفهوم النظام القومي الاجتماعي، ومفهوم القوة القومية الاجتماعية .

 

رموز زوبعة الحزب دعائم وقواعد وقيَم

 

وكلمات الحرية والنظام والقوة والواجب ليست كلمات للتسلية وشعارات للتكرار بل هي”رموز الحزب السوري القومي الاجتماعي الأربعة التي تعبر عن تاريخ الحزب وتاريخ الامة السورية الحقيقي والتي هي الدعائم الاساسية لقيام النهضة ” كما عبّر عنها مؤسس الحزب أنطون سعاده . وهذه الرموز هي الدعائم الاساسية الحقيقية التي تشكل وحدة متينة متماسكة لا تجوز تجزئتها تحت مختلف الظروف ،لأن تجزئتها تشوّه وتمسخ حقيقتها وتعرّضها لبلبلة المفاهيم واستنسابية الأذواق وتفرغها من جوهرها القيمي .

 

 

الحرية بين الواجب والنظام والقوة

 

وقد كان الرفيق الدكتور كمال الرافعي موفّقاً كل التوفيق في دراسته ” الحرية بين الواجب والنظام والقوة ” في قوله : ” هل يجوز تجزئة هذه الرموز الأربعة : الحرية والواجب والنظام والقوة بحيث يبدو الواحد منها مستقلاً بجوهره عما عداه ؟ ثم هل للحرية أسبقية أو أفضلية بالنسبة لباقي رموز النهضة ؟ الجواب طبعاً بالنفي في الحالين . فرموز النهضة الأربعة وحدة متكاملة كاملة بحيث لا يمكننا ولا يجوز لنا أن نتصور الواحد منها منفصلاً عما عداه ، فكيف يستقل بجوهره ؟ الحرية تكون في الواجب ، كما يكون هذا في النظام ، وكما يكون النظام بالقوة . هذه القيم الأربع تتسلسل فيما بينها في جوهرها وفي شروط وجودها لذلك هي في النهاية قيمة النهضة الكبرى التي هي تعبيرات مختلفة عن حقيقتها العظيمة” .

 

فلسفة سعاده بناء متماسك

 

وبالمناسبة أذكر أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية الشهيد الدكتور كمال يوسف الحاج بكل التقدير والحب عندما نصحني بقراءة مقاليه عن أنطون سعاده الأول بعنوان : ” سعاده ذلك المجهول ” والثاني بعنوان ” سعاده الفيلسوف ” حيث قرأت له يومها في مقاله الثاني عن فلسفة سعاده هذا الكلام :” أما فلسفة سعاده فبناء متماسك له سقف عال هو الجوهر أو السماء،وقاعدة راسخة هي الوجود أوالأرض، وجدران أربعة هي القيَم الانسانية الكبرى ..أعني الحرية الواجب، النظام القوة . تلك هي الحقيقة.”

هذا ما قاله الدكتور كمال يوسف الحاج عن بناء سعاده الفلسفي المتماسك : قاعدة وسقفاً وجدراناً بحيث لا يمكن ان يستمر البناء متماسكاً وقائماً ومتيناً اذا انفصلت الجدران عن قاعدتها وعن بعضها البعض وعن سقفها ،أو انعدمت القاعدة وانهارت الجدران وسقط السقف . ومن المفيد ان نورد ما قاله الدكتور كمال يوسف الحاج عن السقف والقاعدة والقيم الاجتماعية في مقاله “سعاده الفيلسوف “حيث ورد فيه:”السقف هو الجوهر.هو السماء. والسماء واحدة، لا سماوات، والا ألغيت سماويتها . لا تعدد في الجوهر، من حيث هو ، لأنه ذو أقنوم بسيط . والبسيط لا يتجزأ . ثمة جوهر واحد في كل الناس، هو الانسانية … ولكن السماء ليست في السماء فقط، وانما هي على الأرض، أيضاً ، والا ما كانت سماء ، فمن أراد أن يدرك السماء ، قبض على الأرض ، وسخّرها لغاياته السماوية . لذا كانت الجواهر السماوية وجودات أرضية … أي كانت القيَم الانسانية تحقيقات قومية . الحق والخير والجمال ، قيَم اجتماعية. الحق انتصار على الباطل في معركة انسانية، وليس في معركة غيبية ، أو الهية ، تجري وراء هذا العالم ، ولا يشترك فيها الانسان – المجتمع الانساني . “

 

الرسالة السورية القومية الاجتماعية

 

وقد وضعت ملخصاً لرسالة المعلم سعادة السورية المدرحية القومية الاجتماعية قلت فيه :

 

الرسالة السورية القومية الاجتماعية هي رسالة الشعب السوري الى سورية أولاً ،والى العالم أجمع. رسالة الحرية والواجب والنظام والقوة كما أعلنها سعاده .

رسالة الحرية لنا ، ورسالة الحرية لأصدقائنا ، ورسالة الحرية حتى لأعدائنا . انها رسالة الحرية الانسانية .

رسالة الواجب الذي يحمّلنا مسؤولية انقاذ انفسنا،وانقاذ أصدقائنا، وانقاذ أعدائنا أيضاً. انها رسالة واجب انقاذ جميع بني البشر .

رسالة النظام القائم على الحق والعدل الذي لا سبيل سواه لتسديد خطانا ، وتسديد خطى أصدقائنا ، وخطى أعدائنا كذلك . انها رسالة النظام الانساني البديع الذي يحفظ مسيرة الأمم في الاتجاه الحضاري التمدني الصحيح .

رسالة القوة المادية الروحية (المدرحية) التي تحرّك فينا أعظم القيم التي تساعدنا على تعميم العافية والخير والسلام في مجتمعنا ، وفي مجتمعات اصدقائنا ، ومجتمعات أعدائنا . انها رسالة القومية الاجتماعية المادية النفسية الدينامية التي تحرّك الانسان أينما كان نموّاً ورقياً وتسامياً .

 

انها رسالة أمتنا الى جميع بني البشر توضيحاً وممارسةً وارتقاءً برسالتيّ مسيحنا ونبيّنا : رسوليّ المحبة والرحمة بين الناس .

انها مسؤوليتنا الخطيرة التي هدفها الكبير خلق الانسان – القومي الاجتماعي المجتعي – العالمي ، الواعي ، الناهض ، المناقبي ، الاخلاقي ، المبدع ، المتفوّق الذي يجعلنا جديرين بموهبة العقل ، هبة الله العظمى التي تعني ان لا نقصد في الحياة لعباً ولا لهواً ، بل أن نكون ونستمر سادة الخليقة والكائنات

فمفهومنا لإنشاء الانسان – العالمي الناهض الذي نسعى الى انشائه بعد ان نحقق نهضة مجتمعنا القومي الاجتماعي هو في تلاقي نهضات الأمم وتفاعلها فيما بينها وتناغم رؤاها وأفكارها وخواطرها وخطط رقيّها وليس في عداواتها وحروبها التدميرية وهيمنة قويّها على ضعيفها ، واستغلال ثريّها لفقيرها ، واحتقار متقدمها لمتخلّفها .

 

مفهوم الحرية مفهوم نهضوي

 

ان مفهوم الحرية في فلسفة سعاده المدرحية السورية القومية الاجتماعية انطلق من هذه الرسالة . رسالة النهضة . وأرى من المفيد في هذه الايام ان اعيد كتابة ما كتبته سابقاً عن مفهوم الحرية في الفلسفة القومية الاجتماعية واؤكد من جديد ان موضوع الحـرية مشكلة عميقة الجـذور في تـواريخ ألأمـم . تـناولها الفكر الإنســاني في جـميع عصوره ومراحله، وفي جـميع ميادين ونواحي نشاطاته من فلسفية وأدبية وعلمية واقتصادية وسياسية…الخ

لهذا لن ندَّعي بأننا أول من طـرق باب هـذا الموضوع ، ولا آخـر

من سيخـوض غـماره . فقد تناوله بالدرس والبحث غيرنا كثيرون .

فتعددت بذلك مفاهيم الحرية بتعدد الدارسين والباحثين ، وتمايـزت

وتـنوعت بـتـمايـز وتـنوع الجـماعـات ، والبـيـئات ، والأزمـنة ،

ومستويات حضارات الشعوب.واختلفت مفاهيمها باختلاف معرّفيها ومنطلقاتها .

 

إلا َّ أن الجديد عندنا هـو الرؤية الجديدة للإنسان والحرية التي تكشفت لنا بنظرة أنطون سعاده الشاملة الى الحياة والكون والفن . الشاملة بمعنى انها نظرة عقلية . نظرة العقل المجتمعي الانساني المحرر نفسه بنفسه بنموّه . بانفتاحه . بديناميته . بتصاعد نضوجه . بتجاوزه كل خطأ . بتخطيه كل صعب . باستشرافه كل حق وصواب وصلاح . باعترافه أن لا أحد من البشر يستطيع أن يعيّن بداية لهذا الوجود ولا نهاية. ولا عمق ولا سقف.ولا جدران مانعة بارادة موجد الوجود وواهب العقل للانسان الذي وصفه أنطون سعاده : “ العقل هو نفسه الشرع الأعلى والشرع الأساسي . هو موهبة الانسان العليا . هو التمييز في الحياة . فاذا وُضعت قواعد تبطل التمييز والادراك ، تبطل العقل فقد تلاشت ميزة الانسان الأساسية وبطل أن يكون الانسان انساناً ” . فـنحن لا نقول بوجود حرية مستـقـلة بذاتها . لأن الحرية الحقيقية كـما نفهمها ليست حرية العدم بل حرية الوجود.الوجود الإنسـاني الكامل . الإنسان- المجتمع الذي هو مقياس كل الأشياء ، ومتجه كل القـيم .

 

الانسان في المفهوم القومي الاجتماعي

 

قبل أن نوضح مفهومنا للحرية، علينا أن نوضح مفهـومنا للإنسـان الذي هو مصدر وجودها   وغايتها وضمان استمرارها . لا وجود لحرية خارج الانسان، ولا معنى لحرية افتراضية وهمية في رؤوس كتّاب القصص ، ورواة الحكايات، وفكاهات المهرّجين . الحرية هي ميزة يتفرد بها الانسان دون سائر المخلوقات ، والانسان بدون الحرية هو مخلوق آخر غير انساني . وحيث يكون الانسان تكون الحرية . ومن يبحث عن الحرية خارج الوجود الانساني المجتمعي لا يمكن ان نسميها انسانية . والفرد الانساني الذي لا يمارس حريته كأنسان اجتماعي ليس انساناً حتى ولو كان له شكل انسان . فالرسوم والصور والتماثيل والمجسّمات وسائر المنحوتات والالعاب تشبه هيئة الفرد الانساني ولكنها ليست حرّة ولن تكون حرّة ولن تصبح حرّة حتى ولو نفخت فيهاأنفاس ملايين البشر، وضُخّت فيها أعاصير الكون . الحرية انسانية،وميزة الانسانية الكبرى هي العقل وميزة العقل هي الحرية ، وميزة الحرية هي الصراع في سبيل الأجود والأفضل للانسان وهذه بداية الوعي والنهضة . فاذا لم ننطلق من الوضوح ونفهم الانسان فهماً صحيحاً لا التباس فيه، فلن نصل أبداً الى توضيح مصطلح الحرية وفهمه الفهم الصحيح وسنبقى نتخبط في عالم فرضي وافتراضي هائج بالأوهام والظنون والمبهمات والخرافات .

 

قال العالم الاجتماعي والفيلسوف أنطون سعاده:الذين ولدوا في عصر مظلم ولم تر أنفسهم النور قط لا يرجى منهم أن يروا ببصائرهم العمياء الألوان والظلال والخطوط والأشياء والقيم والطرق واشكال الحياة ومعانيها والمثل العليا التي اعتنقتها النفوس التي وُلدت في النور وسارت في النور.”                                    

هذا هوا الواقع ،وهذه هي الحقيقة التي تجب البداية منها التي تعني أول شعاع من أشعة الحرية الذي هو تحرر النفوس من البصائر العمياء ومن خرافات المبهمات وذلك بتفعيل البصائر البصيرة والولادة والعيش والحياة والنموّ والنضوج والسير والفعل والانتاج والابداع في النور ،لأن الانسان لا ولن يكون حراً الا في النور الذي يحرره من كل انواع الظلمات . فالنور هو هو لا غيره بيئة الحرية الى أبد الآبدين . والظلمة هي هي لا غيرها جحيم العبودية التي تُعمي النفوس ولن تكون فيها البصائر الا عمياء. العقل البشري اذن هو البداية ولا يظنن أحد انه بغير العقل الانساني الواعي السليم يمكن أن تكون هناك قيمة انسانية يمكن تسميتها بالحرية .

الوضوح في فهم الانسان هو الأساس

ان الواجب الأول في عملية التثقيف الذي قال به سعاده عيّنه بوضوح هو” يجب علينا أن نفهم هدفنا فهماً صحيحاً لنكون قوة فاعلة محققة ولكي نتمكن من العمل المنتج . يجب أن نكون مجتمعاً واعياً مدركاً وهذا لا يتم إلاّ بالدرس المنظم والوعي الصحيح .”

واستناداً الى هذا الوجب الذي يركّز على الوعيّ والفهم الصحيحين والدرس المنظّم شدد سعاده على الوضوح كل التشديد ، فالوضوح هو النور الذي يُولد فيه المتنورون ويسيرون على الهدى الى تحقيق المقاصد الراقية والمُـثُل العليا . الوضوح شرط اساسي للانتقال من حالة مظلمة لا نور فيها ولا تقدم ولا رقيّ أي لا حرية فيها الى حالة جلية يعمّها الجلاء وتتجه فيها البصيرة الى الاهداف السامية والمُـثُـل وهذا ما قاله في هذا الشأن المعلم انطون سعاده :

كل لا وضوح لا يمكن أن يكون أساساً لإيمان صحيح، وكل لا وضوح لا يمكن أن يكون قاعدة لأي حقيقة من جمال أو حق أو خير، فالوضوح – معرفة الأمور والإشياء معرفة صحيحة، هو قاعدة لا بد من إتباعها في أي قضية للفكر الإنساني والحياة الإنسانية.”

الحرية بنت الوضوح المتحرر من المبهم الذي هو عبودية . والحرُّ هو المتحرر من فوضى المبهمات وبلبلات الغموض .

النظرات التي اعتمدها المنظرون في فهم الانسان

ان توضيح مفهومنا للإنسان يتطلب ، بالضرورة ،إيضاح نظـرتنا

الى الحياة الإنسانية في نشوئها ونموّها وتطورها وارتقائها . وهذه النظرة هي نظرة أنطون سعادة التي انبثقت منها فلسفته المدرحية القومية الاجتماعية التي لها مفهومها الخاص في تفسير معنى الانسان ومعنى الحرية الانسانية ومعنى قيمة الحرية العليا وغيرها من القيَم .

 

وبما ان هذه الدراسة لا تـتسع لبحث اجـتماعي وفـلسفي كامل يفي

الموضوع حقه من جميع جوانبه ، فإننا نـكـتـفي بالإشارة والتـنـويه

بأهم النظـرات والنـظـريات التي استـنـد اليها أو التـزم بـها النـوع

الإنســاني وجماعاته الثقافية في خـطـوط وخِـطـط تـفـكيرها التاريخية التطـوريـة ،لـنـشـيـر بـعــدها الى نـظـرتـنا الجـديـدة الى الانسان التي يـمكـن تـسـمـيـتـهـا بالنظرة المجتمعية الانسانية العقلية المادية – الروحية (المدرحية) التي ينبثق عنها مفهوم الحرية الاجتماعية الانسانية العقلية وغيره من المفاهيم. فالانسان الاجتماعي العاقل هو الحر ولا وجود للحرية الا بالعقل والوعيّ ، والوجدان الاجتماعي.

                              

 

1 ـ النظرة الـروحية التكهنية الغيـبـيـة

 

هي نظرة تكهنية تصوّرية تقرر انبثاق ” الوجـود من العـدم ” ويـرى اصحابها ودعاتها الإنسان في كمال وجوده فـردا ً ، ويـرون ايـضا ً البـشــر في كل بيئاتهم ومجتمعاتهم عائلة واحدة وأصل البشر فرد واحد ، ويتركز بنظرهـم أسـاس المثال الأعلى للقـيـَم الانسانية في الأسـاس الغـيـبي الذي تكهنوه والـذي جاءت القـيـَم الإنسانية تعـكس بحسب تكهّنهم بعـضا ًمن ارادتـه ، وتـتـحـرك بأوامـره تبعا ً لنواميسه وقـوانينه التي يخرقها بمعجزاته ، ويعطّل سـيـرها حـيـن ومتى يشـاء . وهـذه النـظـرة هي أرقى ما تـوصل اليـه الإنســان   قـديـما ً في ثـورته على بدائـيته ووحشيـته على الرغـم من كـونها نظـرة ماورائـية  افـتراضية تكهـنيـة جزئـية أدت الى مفهـوم فردية القـيـَم وماورائـيتها ، بحـيـث تكهّنت ورأت الحـرية مـثـلا ً حـرية فــردية. ورتـّـبت على الفـرد الانســاني مســؤلية تـجـاه قـيـَـم   ماورائـية   مـجـردة   تـهـيـمـن على كل تـفـكيـره ، وتسـيـطـرعـليه سيـطـرة تامة . وهذه النظـرة تتعلق بمسألة نشوء النوع البشري التي كما ورد في كتاب نشوء الأمم للعالم الاجتماعي أنطون سعاده “ من المسائل التي شغلت عقل الانسان منذ ابتدأ الانسان يشعر بوجوده ويعقل نسبته الى مظاهر الكون ونسبة هذه المظاهر اليه . فأخذ يتكهن صدوره عن عالم غير هذه الدنيا يعود اليه بعد فناء جسده . ولم يكن هذا التكهن الراقي في التصوّر مما تنبه له الانسان كما يتنبه للموجودات الواقعية ، بل كان درجة بارزة في سلّم ارتقاء الفكر سبقتها درجات من التخرصات الغريبة “.وهذه النظرة التوهمية التكهنية الافتراضية لا تـزال تتحكم بالمـجـمـوع الأعظم من البشر في كل مجتمعاتهم .

 

التمييز بين النظرة التكهنية والايمان بالله

 

ولا بد هنا من التمييز بين النظرة الروحية التكهنية الغيبية التي تقول:بانبثاق الوجود من العدم والنظرة الايمانية بالله رب العالمين . فالعدم عدم. والوجود وجود . والله أو إلـه العالمين هو الوجود الباقي وليس عدم . ولو كان عدماً لما استطاع أن يكون وجوداً .والايمان بالله قد يكون بالاكراه كما يكون بالرغبة والترغيب . كما ان عدم الايمان قد يكون بالقسر كما يكون بالطمع والاغراء . وأعلى درجات الايمان الصحيح ما عبّر عنه الامام عليّ بن أبي طالب حين خاطب الله بقوله ” ما عبدتك طمعاً بجنتك ، ولا خوفاً من نارك ، ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك “. وانطون سعاده لم يكن مؤمنا وحسب حين قال: ” كلنا مسلمون لله رب العالمين …” بل تجاوز سقف الايمان الى الشعور والاحساس بوجود الله وقدرته فقال “ أمي وبلادي ابتداء حياتي وستلازمانها الى الانتهاء ، فيا أيها الإلـه أعني لأكون باراً بهما ” .

الايمان بالله يبدأ بالتلقين والاقناع والاقتناع والشك والترغيب والاكراه ويمكن أن يتراجع ويتقهقر الايمان الى الريبة والشك بالتضليل والتشويه والجبر والترغيب والقهر. أما الاحساس المادي-الروحي (المدرحي) الصحيح فلا يتراجع ولا يتقهقر بل يعمق ويتسع ويمتد بلا حدود أو سقوف. فلا يخلطن أحد بين التكهُن والايمان بالله فقمة الايمان الصحيح بالله الذي هو الاحساس بالله الذي يجعل الايمان مطلقاً لا تقهقر بعده .

 

 

2 ـ النظرة المادية التكـهـنـية الافتراضية

 

هي نظـرة تصوّرية افتراضية تكهنية أيضاً تـقـرر انبثاق الـوجـود من” تـطـور مادي تلقائي “. وقــد رأى أصحابـها ودعاتها وفلاسفـتها الماديـون الإنسان في تمام وجـوده ايضا ً وجـودا ً فــردا، ورأوا البشــر رغم تمايـز وتـمـيـّز بيئاتهم ومجتمعاتهم مجـتمعا ً واحـدا ً ، واعـتـقـدوا أن المثـال الأعلى للقـيـَم الإنســانية بحسب مفهـومهم ، يـتـركـّز في الأســاس المـادي الـديالكـتيكي الجدلي الـذي جاءت القـيـَم الإنسانية تـعـكس بعـضا ً من جـدليته وتـتـحــرك تـبـعا ً لنامـوس تكهّن وافتراض حـتـمـيـتـه الـذي لا يخضع لتـغـيـيـر الا تـغـيـيـر القـانون الجـدلي .

وهـذه النظـرة كانت رد فعـل على النظرة الـروحـية الغـيـبـيـة الإفـتـراضيـة التكهنية . فـتـناقـضت معها من حـيث النتائـج الأخيـرة ، وانسجـمـت النظرتان التكهنيتان الروحية والمادية من حـيـث التصوّر التكهني وأسلوب المواجهة ،وموقفهما من علة الكون.فـحـل إفتراض ” التطـور التلقائي “عـنـد الفلاسفة الماديين مـحـل افتراض “ واجب الوجود“عـنـد الفلاسـفـة الروحـيـيـن وكلا الافتراضين تكهّن . مما أدى الى مادية القـيـَـم   بـدل ماورائـيـتـهـا ، وثنائـية التناقـض في المثال الأعلى المادي بـدل الوحدانية الغيبية في المثال الأعلى الروحي .

 

نشوء المفهوم الجزئي

 

وعن هاتين النظرتين الجزئيتين نشأ مفهوم الانسان الجزئي فرداً ومجموعة، ونشأ مفهوم الحرية الجزئية الفردية والمجموعية أيضاً فاختلط مفهوم الحرية بالحقوق .حقوق الفرد وحقوق المجموعات الدينية المؤمنة الطقوسية والمجموعات العلمانية غير المؤمنة، واختلط الحابل بالنابل ،وحلّ التنابذ والتباعد في الآراء والمفاهيم. وكذلك هاجت حروب الالغاء والتكفير بين الجماعات الانسانية مهددة البشرية بمصير الفناء والتلاشي باسم مفهوم الحرية الجزئي التفتيتي الذي تأرجح وتراوح وتناثر بين حالتي الانكماش والانفلاش أدتا الى تعقّد وتقوقع واختناق نفسيات الاقليات الاتنية والطائفية والفئوية ، وتغطرس وانتفاخ وتورّم نفسيات الاكثريات الملية والطائفية ….

 

3 ـ نظرة سعاده الى الحياة الانسانية

 

وهذه النظـرة هي عنوان نظرتنا المجتمعية الإنسانية الواقعية   التي هي ليست رد فـعـل على النظرة الروحية،وليست رد فـعـل على النظرة المادية. وانما هي نظرة عملية واقعية علمية   شاملة الى الواقع الإنساني في نشوئه ونموّه ، ونشوء المجتمعات وتطورها ، ونشوء الأمم وتمدنها وارتقائـها،ونشوء التاريخ والحضارة، ومعـنى القومية ووعيّ مضامينها وفهم واستيعاب القـيـَم الإنسانية العليا وممارسة الصراع لتـحـقـيقها. وذلك انطلاقاً من قاعدة الواقع الطبيعي المحسوس التي اكتشفها واستند اليها العالم الاجتماعي والفيلسوف انطون سعاده وأشار اليها في كتابه “نشوء الأمم” بعد بحث ودرس وتحقيق ” لا بشر حيث لا أرض ، ولا جماعة حيث لا بيئة ، ولا تاريخ حيث لا جماعة

هذه النظرة لا تبـدأ مما قـبـل الإنسان . ولا تـهتم بما هو خارجه او بعده بل تهتم بكل ماله علاقة به وبتحسين مستوى حياته . ان هذه النظرة تـبـدأ من وبالإنسان . وتهتم به ، وبكل ما من شأنه تـحسين حياة الإنسان وتجويدها وتـشريفها وتوسيع آفاق تقـدمها وترقـيتها، وهي تـنـتهي فيه وفي ترقية حياته باستمرار. وهي ترى أن الإجتماع كما ذكر المعلم أنطون سعاده في مـؤلفه العلمي نشوء الأمم “حـتـمي لـوجـود الإنسان، ضـروري لبقائـه “.

وعلى هذا فـقـد قـررت هذه النظرة أن الإنسان في كمال وجـوده هو انسان ـ مجتمع وليس انسان ـ فـرد،وأدركت من البداية أن أساس الإرتقاء الإنساني ليس أساساً روحياً وحسب ،ولا هو أساس مادي خالص بـل هـو أساس مادي ـ روحي . أي مـدرحي دون ثنائـية . أي انساني اجتماعي.

وهذه النظرة تنطلق من نظرة المعلم أنطون سعاده وتـعـمل بقوله الشهير“ليس المكابرون بالروح بمستغـنيـن عن المادة وفلسفتها وليس المكابرون بالمادة بمستغـنيـن عن الروح وفلسفته . إن أساس الإرتـقاء الإنساني هـو أساس مادي ـ روحي وإن الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه”.

وهي ترى بعين الوضوح واليقين والعلم مجتمعية الإنسان ومدرحيته لا فـرديته المادية ولا فـرديته الروحية، وترى أيضا ًبعين الواقع والعلم أن الكرة الأرضية الكروية هي واقع بيات أرضية جغرافية متعددة ومتنوعة وان العالم الإنساني هـو واقـع شعوب ومجتمعات قـومية متمايزة . وهذا ما يتفق مع ما ورد في القرآن الجليل:”يا أيها الناس إنَّـا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى، وجعلناكم قبائل وشعوباً لتعارفوا. إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم “.

انه واقـع أمـم.واقـع مجتمعات انسانية ثقافية حضارية متعايشة متعاونة ولا يمكنها ان تعيش وتـتـطور وترتقي وهي المعتزلة الواحدة منها عن الأخرى، بل عليها ان تكون على اتصال بعضها بـبعض.

وهذه النظرة ترى أيضا ً أن مطلقية القيَم الإنسانية هي في كونها قـيـَم مـجـتمعية  قـومية مـدرحـية   انسانـية مـتــنوعة في انسجام ، ومـتـعــددة في   تناغـم ، ومـتـمايزة في تفاهم .

وبناء على ما تـقـدم فإن مسؤلية الفـرد الإنساني النهائـية ليست ولا يمكن ان تـكون تجاه القـيـَم الماورائـية الغيبية المجـردة ، ولا تجاه المثال المادي في الحياة ، وإنما هي مسؤولية تجاه المجتمع الذي ينتمي اليه الفـرد “ولا يستـطـيع اختياره إلا بـقـدر ما يختار والديه” كما عبَّر عن ذلك أنطون سعاده . فالمجتمع هـو مـصـدر الأفراد وهـو بالتالي مـصـدر القـيـَم وغايتها ، وهـو أيضا ًالمدى الصالح والحيوي الذي يـفـسح المجال لبروز الشخصية الـفردية ونـمـوّها ورقيّها واطلاقها الى أبـعـد مـدى .

وعلى هذا الأساس فإننا نجد أن القيَم الفـردية أو الفـئوية أو المذهبية أو الطبقية لا تستـطـيع مهما ارتقت أن تـصل الى مستوى القـيـَم الحقيقية الإنسانية ، لأنها لا تـقـدر أن تـتـعـدى في اهتماماتها نطاق الفرد أو الفئـة أو الملّة أو المذهب أو الطبقة أو الأقلية أو الأكـثرية . وبما أن المجتمع يحضن الفرد والفئة والملّة والمذهب والطبقة والأقلية والأكثـرية وكل الشرائح ، فإن القـيـَم القومية الإجتماعية الإنسانية هي قـيـَم جميع الأفراد والفئات والملل والمذاهب والطبقات والأقليات والأكثريات وكل الشرائح الإجتماعية.

 

عالمية النظرة المدرحية القومية الاجتماعية

 

وحيث ان المجتمع القومي هـوعنصرأساسي في مـُرَكـّـب العالم الذي

نسميه الانسانية المترابطة فيما بين أمـمه بواسطة ثقافاتها وعلاقاتها

وآدابها وابداعاتها ، فإن القـيـَـم الإجتماعية القومية هي قـيـَم انسانية عالمية عامة لجميع بني البشر .

 

وكلما ارتقى الفكر في أمة،وارتـقت مفاهيمها،وتـوسعت آفاق نظرها، وابعاد مـُثـُلها العليا، فإن وسائل تفاهمها مع غيرها من الأمم تصبح أرقى، وقـيـَمُها تصبـح أكثـر انسانية وأكـثر قـبـولا ً وتـبـنـيا ً لدى جميع الشعوب والأمم لأنها تقوم على العقل الذي هو الشرع الأعلى والقانون الاساسي للوجود الاجتماعي الانساني،والذي وصفه المعلم انطون سعاده بانه البشرية كما جاء في مجلة المجلة في البرازيل عدد ابريل1925 بعنوان “العقل البشري هو البشرية” قائلاً :”إنَّ الأمم والشعوب متى كانت منفردة ، أيّ منعزلة الواحدة منها عن الأخرى، لا يمكن أن تتألف منها وحدة تُسمى “البشرية”أو”الانسانية”على الاطلاق. فالبشرية أو الانسانية وتطورها باعتبار انها تركيب كامل لا يتم الا اذا كانت أجزاؤها مترابطة ترابطاً تاماً بتلك الواسطة الانسانية التي تُسمى”العقل البشري”. فالعقل البشري هوالبشرية أو الانسانية كلها متى كانت أقسامه على اتصال بعضها ببعض بما يُطلق عليه اسم :” أفكار” أو ” خواطر ” تسير بين الأمم كلها . فاذا لم يكن ذلك ، بطُل أن يكون هناك إنسانية بمعناها العصري، واقتصرت لفظة الانسانية على التعبيرعن الانسان تمييزاً له عن الحيوان ، ولا يتسنى لأجزاء العقل البشري ان تكون على إتصال بعضها ببعض إلاّ إذا توفّرت لها وسائل التفاهم التي تحمل الى العقل السوري أو العقل المصري فكر العقل الانكليزي أو الالماني مثلاً .”

لا نظن انه يوجد أمة ترضى اعتزال العالم لو خُيِّرت، أم تتمكن من ذلك إذا عقدت النيَّة عليه .”

بناء عليه كان واجب كل أمة أن تُسهِّل وسائل التفاهم بينها وبين الأمم الأخرى الغريبة عنها ، وبناء على هذه النظرية كان واجب الأمم الناطقة بالضاد أن لا تُقصِّر في التفاهم مع الأمم الأخرى.

 

واجب الفرد الانساني

 

وبناء على كل ما ورد ذكره ، فإن مسؤلية كل فـرد إنساني هي أن يكون مواطنا ً صالحا ً منتجا ً في المجتمع وليس في الفئة ، ولا في المذهب ولا في الطبقة ولا في الطائفة ولا في أي شكل آخـر من أشكال التجمعات البشرية المنغلقة أو المنفلشة .

وحين يتحول أبناء المجتمع الى مواطنين صالحين منتجين ، فإن مجتمعهم يـُصـبح ، بلا شك ، عـضـوا ً سليما ً فاعـلا ً في حـركة إغناء التـجـدد والإرتقاء الإنسانيـين، وتـكوين عالم انساني جـديد   بـقـيـَم انسانية   أرقى وأسمى .

على ضـوء هذا المفهـوم الجـديد للـوجـود الإنساني يتـضح أن الوجود الكامل السليم الصحيح ليس وجودا ً فرديا ًأو مجموعياً بل وجوداً إجتماعيا ً ، وليس وجودا ماديا ً منفصلا ً عن الروح ، ولا وجودا روحيا ً مـجـردا من المادة ، بل هـو وجود مادي ـ روحي واحـد دون ثنائية . وجود مـدرحي انساني اجتماعي إذا تـجزأ فـقـد انسانيته   وتلاشى .

ان مفهوم الانسان في نظرة انطون سعاده الواقعية العلمية والفلسفية هو انسان – مجتمع – أمة وهو أيضاً انسان مادي روحي .وصحته في مجتمعيته وليست في فئوياته . وسلامته في مدرحيته وليست في تفسخه المادي والروحي . أي أن مرضه في تشلَعه الى فئويات متضاربة ، وخرابه في تنافر نفسيات أفراده وفئوياته وكيانياته . أما ارتقاؤه وأساس ارتقائه ومسيرة وديمومة ارتقائه ففي كونه وجوداً قومياً اجتماعياً مدرحياً انسانياً .

 

واقع كوكب الأرض

 

ولأن واقـع الكوكب الذي نعيش عليه ليس بيئة واحدة، بل واقع بيئات متنوعة ، مما يجعل العالم الإنساني واقع مجتمعات متمايزة. واقع أمم. فإن الوجود المجتمعي الأتم الكامل هـو وجـود الأمة التي لا تعني جيلا ً واحـدا ً في حقبة من الزمن ، ولا تعني عـدة أجيال في عـدة حـقـب زمنية بل تعني وحـدة حياة الجماعة الانسانية وحركتها المستمرة على بقعة أو بيئة معينة من الأرض تفاعلت معها وتتفاعل وسوف يستمر هذا التفاعـل منذ كانت الحياة الانسانية الى ما سوف تكون .

فالبيئة الطبيعية من الثوابت ، والجماعة الانسانية المتطورة المتعاقبة هي أيضاً ثابتة الوجود بثبات بيئتها . وتطور الجماعة بتطور ثقافتها ورقيّها . ويتضح أيضاً أنه يجب اعتبار الانسانية تركيب كامل

استنادا الى هذه النظرة التي تقول بالانسان ـ المجتمع ،والتي ترى أن

الأفراد هـم امكانيات وفعاليات اجتماعية ، فان المثال الأعلى للقـيـَم

الانسانية يتركز على الاساس المجتمعي الانساني المدرحي حيث يكون المجتمع هو مصدر كل القـيـَم وحضنها ومآلـها . وحيث يكون ارتقاؤه المستمر الشرط الأساسي على أهليته وجدارته في النموّ والإبتكار والإبداع والخلق،وحيث يـدل على مبلغ السمـوّ في رسالته الحضاريـة الى الشعـوب الأخـرى ، ويشيـرالى جـدية مشاركته في الصراع الانساني من أجـل تحقيق” حياة أجـود ، في عالـم أجـمل، وقـيـَم أعلى ” كما عبر عن ذلك الفيلسوف أنطون سعاده في كتابه ” الصراع الفكري في الأدب السوري“.

 

فـبـدلا ً من فـردية القـيـَم وماورائيتها كما تقرر في النظرة الروحية الغيبية التكهنية ، وبـدلا ً من فردية القـيـَم وماديتها وخضوعها لبعض القـوانين الحتمية التي تـوصل الى اكـتـشافـها أو تقـريـرها العـقـل الانساني في زمن مـعـيـّن،ومكان مـعـيـّن، ومستوى ثقافي مـعـيـّن،  فإن القـيـَم تصبح في المفهوم الجـديد قـيـَما ً اجتماعية إنسانية تـبـدأ من وبالمجتمع ، وتنمو بنموّ المجتمع ، وترتقي وتسمو بقدر ما في المجتمع من طـاقة على الارتقاء والسـمـوّ. وتصبح مسؤلية الأفراد ليست تجاه قـيـَم ماورائية تكهنية مـجـردة،ولا تجاه قـيـَم مادية خانقة ، بل تجاه قضية عـُظـمى تساوي كل وجودهم .ويتوقف على انتصارها أو انهيارها انتصار الأمة أو انهيارها.وانتصار العالم وغناه الانساني أو انهيار العالم وشيوع همجيته وتلاشي انسانيته .

 

هذه هي بعض ملامح النظرة الجديدة التي تكشفت لنا بأحـد أبـرز عباقرة أمتنا المعلم أنطون ســعاده الذي دفع دمه ثمنا ً لتكريس هذا الوعي وانتصاره في جميع أبناء أمتنا ، ليتنبهوا الى حقيقة وجودهم، وليعـملوا من أجل تحقيق انتصار حقيقـتهم ، فتستعيـد الأمة قـدرتها على الحياة والإبـداع ، وتحتـل مكانها اللائـق بها تحت الشمس بين الأمم .

 

وعلى ضـوء هذه النظرة الإجتماعية العلمية العـقـلية الـتـي لا تبـدأ مـما قـبـل الإنســان ، ولا تهـتـم بما بـعـده وخارجه، بل تهتّم بالانسان نموّاً ورقيّاً وتقدّماً سنحاول تفسير المفهـوم الجـديـد للحـرية . مفهـوم الحرية المجتمعية الإنسـانية عند عالم الاجتماع والفيلسوف أنطون سعاده التي قال عنها أنها رسالة الأمة السورية الى سورية والى العالـم العربي والى الانسانية جمعاء.

 

المجتمع هو الحالة والمكان الطبيعيان للانسان

 

يقول سعاده في الفصل الرابع من مؤلفه العلمي نشوء الأمم في الصفحات 51-52 :” اننا حيثما وجدنا الانسان وفي أية درجة من الانحطاط أو الارتقاء ، وجدناه في حالة اجتماعية . وهكذا نرى ان المجتمع هو الحالة والمكان الطبيعيان للانسان، الضروريان لحياته وارتقائهما. ولما كنّا لم نجد الانسان الا مجتمعاً ووجدنا بقايا اجتماعه في الطبقات الجيولوجية ايضا ، فنحن محمولون على الذهاب الى ان الاجتماع الانساني قديم قدم الانسانية، بل نرجّح انه أقدم منها وأنه صفة موروثة فيها

وبناء على دراسة نشوء المجتمعات والأمم والقوميات دراسة واقعية علمية وجدية ومتأنية يكوّن نظرته الواقعية الجديدة للطبيعة، وللحياة الانسانية الطبيعية في هذا الكون ، ولمسؤولية الانسان تجاه نفسه وتجاه الكون ومواجهته ، ورسالة الانسان ودوره في فعل الكشف والانتاج والخلق والابداع فيؤسس فلسفته على قواعد الواقع الطبيعي لحياة الانسان في مجتمعه، ولعلاقاته مع غيره من المجتمعات ، ويعيّن لهذه الفلسفة مباديء ونهجاً وغاية عاملاً مجاهداً بكل ما لديه من مواهب ،وما يملك من امكانيات وما توفّر له وما يتوفر من قدرات ليحقق مضامين ومفاهيم هذه الفلسفة التي أطلق عليها الفلسفة المدرحية القومية الاجتماعية في أمته لتكون أمته بها النموذج المثال لجميع الأمم والمتحدات الانسانية الاجتماعية بحيث تتحول الى عقيدة حياة انسانية صالحة جديدة لانسان مجتمعي صالح جديد يمكنها النهوض أو هي الفلسفة الصالحة لتحقيق نهضة أي مجتمع – أمة في هذا العالم .

وقد كان واضحاً في تعريفها عندما قال :” نعرّف العقيدة بأنها قومية اجتماعية. فهي قومية لأنها تقول بالأمة والولاء القومي. وهي اجتماعية لأن غايتها الاجتماع الانساني – المجتمع وحقيقته ونموّه وحياته المثلى. والمجتمع الأكبر والأمثل هو الأمة. وقد جاء في التعاليم ” أمة واحدة- مجتمع واحد”. من هذا الايضاح الأولي ندرك أن عقيدتنا تقول بحقيقة انسانية ، كلية ، أساسية هي الحقيقة الاجتماعية: الجماعة ، المجتمع الواحد . فالاجتماع للانسان حتمي لوجوده ، ضروري لبقائه واستمراره. والمجتمع هو الوجود الانساني الكامل والحقيقة الانسانية الكلية. والقيم الانسانية العليا لا يمكن أن يكون لها وجود وفعل الا في المجتمع . فمتجه القيم كلها هو المجتمع – هو مصدرها وهو غايتها“.والحرية ليست الا قيمة اجتماعية انسانية من هذه القيَم .

معنى المجتمع ومعنى القومية

فما هو معنى المجتمع وما هو معنى القومية في نظر انطون سعاده العالم الاجتماعي والفيلسوف ؟ وما هو معنى القومية الاجتماعية لتسهيل معنى ومفهوم الحرية القومية الاجتماعية ؟

بالاستناد الى كتاب ” نشوء الأمم” الذي تناول فيه دراسة الاجتماع الانساني ابتداءً من عهد نشوئه ، ومروراً بكل المراحل التطورية منذ بداية التاريخ الجلي وحتى عهدنا الحالي يقول سعاده في فصل”الاثم الكنعاني” في الصفحة 165 : ” الأمة متحد اجتماعي أو مجتمع طبيعي من الناس قبل كل شيء آخر “،ويستخلص بعد بحثه تعريفاً للأمة غير خاضع لتأثير واحد معيّن من تاريخ أو أدب أو سياسة أو أي شيء آخر فيقول : ” الأمة جماعة من البشر تحيا حياة موحدة المصالح ، موحدة المصير، موحدة العوامل النفسية المادية في قطر معيّن يُكسبها تفاعلها معه ، في مجرى التطور ، خصائص ومزايا تُميّزها عن غيرها من الجماعات.”

المقصود من المجتمع عند سعاده هو المجتمع الطبيعي أي مجتمع الأمة ، ومجتمع الأمة هو جماعة القوم التي تحيا في بيئة معيّنة وتتفاعل مع هذه البيئة وتصنع تاريخها عليها. والقوم لغوياً كلمة مشتقة من الاقامة أي اقامة الجماعة الانسانية في المكان أو البيئة . وجمع الكلمة أقوام . ولاقامة القوم في المكان سُميَّ المكان بيئة القوم الطبيعية أو وطن جماعة – القوم المستوطنة فيه ،والمتفاعلة معه. فالبقعة الجغرافية لا يمكن تسميتها وطناً الا اذا أقام واستوطن فيها قوم. وكذلك لا يمكن أن نسّمي القوم قوماً الا اذا كانوا مقيمين في بيئة معينة . في وطن معيَّن . فكلمة القوم تعني الأمة اي وحدة الجماعة الانسانية المقيمة والمستوطنة في بيئة ارضية معيّنة متحدرةً من تاريخ طـويـل يعـود الى ما قـبـل الزمن التاريخي الجـلي صانعةً ثقافـتها وحضارتها وتاريخها في بيئتها . فاذا وصلت جماعة القوم أي جماعة مجتمع الأمة الى طور ومرحلة النضوج والرشد واخذت تتنبه لوحدة وجودها ووحدة حياتها ووحدة مصيرها وبدأت تدرك مصالحها في الحياة يمكننا ان نقول أنها بلغت درجة الوعي المجتمعي اي الوعي القومي أي وعيّ الامة لوحدة حياتها ومصيرها.

فالقومية اذن يقظة وتنبه أي حالة نضوج مجتمع الأمة ورشده .

فاذا كان الفرد الانساني عندما يصل الى سن الرشد يقال عنه انه اصبح راشداً وبرزت شخصيته الفردية الراشدة وأصبح بامكانه ان يتحمل مسؤولية نفسه بنفسه وبناء أسرة ويصبح له رأي وصوت وحقوق مدنية واجتماعية وسياسية ، فان المجتمع الانساني الذي ينضج ويتنبه لمصالحه في الحياة وتقرير مصيره وتبرز شخصيته الاجتماعية يقال انه اصبح ناضجاً واعيا راشداً نابهاً أي انه بلغ مرحلة وحالة الوعي المجتمعي القومي .

فالقومية اذن هي يقظة ووعيّ وتنبه الأمة وقد عبَّر أنطون سعاده أبلغ وأحسن تعبير عن هذا المعنى في كتابه العلمي ” نشوء الأمم “.في الصفحة 167 بهذا المقطع :”القومية، هي يقظة الأمة وتنبهها لوحدة حياتها ولشخصيتها ومميزاتها ولوحدة مصيرها . وقد تلتبس أحياناً بالوطنية التي هي محبة الوطن ، لأن الوطنية من القومية ، ولأن الوطن أقوى عامل من عوامل نشوء الأمة وأهم عنصر من عناصرها. انها الوجدان العميق الحيّ الفاهم الخير العام ، المولّد محبة الوطن والتعاون الداخلي بالنظر لدفع الأخطار التي قد تحدّق بالأمة ولتوسيع مواردها، الموجد الشعور بوحدة المصالح الحيوية والنفسية ، المريد استمرار الحياة واستجادة الحياة بالتعصب لهذه الحياة الجامعة التي يعني فلاحها فلاح المجموع وخذلانها خذلانه”

 

القومية الاجتماعية وعيّ المجتمع حقيقته

بعد هذا التوضيح لم يعد يوجد أي مبرر لأي التباس في فهم مصطلح ” القومية الاجتماعية ” المركّب من كلمتي : ” القوم والاجتماع ” أي الانسان – المجتمع ووجدان المجتمع الحيّ الفاهم . الانسان- الأمة ونضوج الانسان التام الذي لا يحتاج الى وصيّ ولا الى وكيل ولا الى مربّي ولا الى راعي أو مشرف . ولم يعد الاجتماع اجتماع عصبة أو عصابة من الأفراد أو فئة أو عشيرة أو ملة أو طائفة أو مذهب . ولم تعد القومية تعني عصبية عصابة او قومية فئة أو قومية عشيرة او ملّة أو طائفة أو مذهب. بل صارت الأمة تعني وحدة وجود ووحدة حياة ووحدة تاريخ ووحدة حضارة ووحدة مصير، وأصبحت القومية تعني ذاتية الأمة العميقة ووجدانها الحيّ ويقظتها المنعشة ووعيها المنفتح المتوسع باستمرارعلى أبعاد الكون وآفاق الأزمنة وآتيات العصور، وأصبح مفهوم الحرية القومية الاجتماعية هو الروحية الصراعية المنبثقة والمتولدة من أعماق الانسان- المجتمع – الأمة الواعي . الحرية تعني في المفهوم الجديد حرية الوجود الانساني الواقعي أي الانسان- المجتمع التام . وتعني أيضاً وعيّ وتنبه هذا الوجود الانساني لذاته ومكانته ودوره في الوجود . فهي انبثاق فعل من داخل الانسان-المجتمع لاتعطى ولا تؤخذ بل هي حركة تفعل، وحياة تنهض ،ووعيٌّ يرتقي ويتسع ، وقوة صراع لا تكتفي بنجاح لآنها أم كل نجاح وفلاح وانتصار

 

مـفـهـوم الحـرية المجـتمعية

 

وبما أن الـوجـود المجتمعي الإنساني هو وجـود نموّ والنموّ حـركة ، فإن حرية الانسان هي حرية انسانية اجتماعية نامية متحركة ديناميكية ، وهي حرية الصـراع والتـقـدم.صراع أفكار تتعمق بأفكار وتتوسع بأفكار. وتمتد بافكار . وتتحسن بأفكار .وترتقي بأفكار . انها صراع بصائر ورؤى . صـراع عـقـائـد في سبيل تحـقـيـق مجتمع أفـضـل .

انها قاعـدة من قـواعـد نـهـضة كل مجتمع يريد ان ينهض ، وهي الى جانب كونها قاعـدة هي ايـضا ً وسيلة من وسائـل تـقـدمه وازدهاره . وهي فوق ذلك منقبة قيمية عليا من مناقب وقيم الانسان- المجتمع – الأمة .

من الطبيعي أن القـاعـدة لا تـكـون سليمة وفاعـلة أو تـكـتسب فاعليتها إلا من حيث هي جـزء في كـل مُرَكَّـب . لها مكانها ولها دورها ولها وظـيفـتها .

ولهذا فإن الحـرية ليست منعزلة عما عداها من القواعد والدعائم وهي لا تكون بالضـعـف بـل تكون مع القـوة . ولا تـكـون بالفـوضى بـل تكون مع النظام. ولا تكون بالتخاذل بل تكون مع الشعـور بالمسؤلية والقيام بالواجب. ونحن لا نستطـيع أن نـتصـور مجتمعا ً حـرا ً راقيا ً يـرضى بالجـهل ويعيش بالتخلـّـف ويسير بالرذائـل مبتعداً عن الفـضـائـل والمحامد والمكارم .

 

الحرية لا تنشأ الا في مناخ الحرية

 

يتـبيـّن من كـل ما تقـدم ان للحرية في مفـهومها الجديـد مناخا ًخـاصا ً لا تـنـشأ بـدونه ولا تـنمو وتستـمر بـغـيـر تـوفـره ، ولا ترتقي الا بارتقاء الانسان- المجتمع. وهذا المناخ لا يقـوم بدون مقـومات أصلية جلية ومتينة .

وبما أن الحـرية هي ميزة الإنســان العاقـل ،وهي من أرقى مزايا الإنسان ـ المجتمع فإن مقـومات نشوء مناخها هي مقومات إجتماعية إنسانية نهـضوية . ومن العبث أن نبحـث عن الأحـرار خارج نهـضة المجتمع سواء كان ذلك في مناخ الإستسلام لـقـوى ” الماوراء ” أوفي مناخ الإستسلام للقوانين” الوضعية الإفـتراضية ” التي وضعها الإنسان أو قررها في تعاقب أجياله . وكذلك لاتـفـيـد في شيء كـل محاولات التوفـيـق والتسويات التي تجـري لتـقـريـب وجهات النظـر المـتـناقـضة والمتضاربة في المنطلقات والاساليب والأهداف القريبة والمتوسطة والبعيدة .

إن الحـرية هي من أهـم الوسائـل وأفـعـل الأسباب التي يستطيع الإنسان بواسطـتها غـزو العوالـم التي ، ما تـزال قـدرته الإنسانية غـير كافية وغير مهـيأة لإكتشاف خبايا وأسرار تلك العوالم. والتي تـسـفـِّه ، في حال اكتشافها ، الكثير من المفاهيم ” الماورائية ” والتعليلات التكهنية ، والروايات الخرافية .

والحرية في الـوقت نفسه هي من أقوى الأسلحة الفـعَّالة في اكتشاف

نواميـس كونية وحياتية أعـم ، وقوانين طبيعية أشمل تساعـد الإنسان على التـخـلـّـص من عـبودية النظريات الحتمية، والأحـكـام المسبقة ، والتنظير الخرافي ، لأن الحقيقة البديهية التي يجب أن تبقى ماثلة أمامـنا هي:” أنـنا كلما صـعـدنا قـمة تراءت لـنا قـمم أعـلى ويجب عـليـنا أن نـصـعـدها .”

والى جانب كون الحرية وسيلة وسلاحاً فعالين في تحرير الانسان – المجتمع من قيود عادات وتقاليد وأعراف الماضي التي رثَّت واهترت فانها قيمة من أهم القيَم التي تدفع الانسان وتحرّك طاقاته لينطلق الى الأمام . الى الأحسن والأفضل .

وانطلاقا ً من هذه الحقيقة فإن كل قـول نهائي فاصـل في تعليل نشوء الكون أو تفسير نهايته ، هـو قـول باطـل مهما ارتقى أسلوب منطقه، ومهما بدت تعليلات حدوثه واقعية للعقول الفردية الجزئية . فالعقول الفردية تـحـتاج دائما ً وباستمرار الى مـزيد من التـعـقّـل والتـبصّـر، ومـزيد من النـمـوّ والنـضـج وسـمـوّ الإدراك .

والحقيقة في نظري هي كما قال المعلم سـعاده : “ انه لا يُوجد في العالم شيء يُسمى حقيقة ابتدائية . فـكـل شيء متعلق بما سبقه الى ما لا نستطيع ادراكه . ”

واستنادا الى هـذا الفهم الإجتماعي للإنسان ، فـنحن نقـرر أن القيَم

الإنسانية هي قـيـَم اجتماعية انسانية . قيَم قومية اجتماعية .

ولأن المجتمعات هي كائنات طبيعية حيـّة نامية، فإن مفاهيم القـيـَم الحقيقية هي مفاهيم القـيـَم الحياتية التي تـنـمو وترتقي بـنـموّ المجتمعات وارتقائها . وتـضعـف وتتخلف وتزول بضعـف وتخلف وزوال المجتمعات .

ولذلك فإن أفـضـل تحـديد للحرية التي هي قيمة عليا من قيم الانسان المجتمع أن تبقى بدون تحـديـد .

واذا كان لا بد من تعريف الحرية لتقـريبها من الأفهام ، فإن الحرية تكمن في طاقة المجتمع على النـمـوّ الـدائـم ، وقـدرته على الخلق المتسامي ، وتكمن أيضا ً في جـدارته على ممارسة سلبيته في مواجهة الكون الماثـل أمامنا بحيث لا يبقى مشلولاً أمام عظمة الكون وألغازه وخباياه . الحرية هي القدرة الانسانية على تعديل وتصحيح وتصويب كل المفاهيم التي ظـهـرت حتى الآن من جراء تقصير العقول الفردية الجزئية ، التي كان قصورها بالذات ويبقى ، طريقا مسدودة ونهاية خانقة تقضي على كل أمـل للإنسانية بالنهـوض والتـقـدم والارتقاء .

 

من هنا كانت أهمية تـوفـر مناخ النهضة الذي هـو : “ خـروج من البلبلة الى التعيين .” على حد تعبير المعلم سـعاده . ومن هنا كانت أهمية ولادة الإنسان الجديد الجـيـّد الصالح الناهض الذي يسعى باستمرار الى الأصلح والأجود والأرقى نهوضاً .

وتـوفـر مناخ النهوض أو النهضة ، وولادة الإنسان الجـديد هما أمران مهمان أساسيان ولا يمكن أن يحصلا إلا بتوفر المقومات الأساسية التالية :

 

مقومات نشوء الحرية

 

المقوم الأول : الـوعيّ الإنساني

 

إن الوعي الإنساني السليم هـو شرط أساسي وجوهـري لقيام ونشوء الحرية ، لأن ” المجتمع مـعـرفة والمـعـرفة قـوة ” كما قال أنطون سعاده . والقـوة هي حـركة ديـناميكية حـيـّـة نامـيـة . والمعـرفة التي نقصد هي المعرفة الإنسانية بكل أبعادها،وبكل مستوياتها ومقايـيسها المنبـثـقـة من يـقـظـة المـجتمع ، وتـنـبـّهـه لوجوده ومعـنى وجوده. وحياتـه ومصـالحـه في الحـيـاة. ومصـيـره وكيفية تحـسين وتجـويـد وتـرقـية هـذا المـصـيـر.

إن الحريـة هي وليـدة تـنـبـُّه الإنسان الخـارج من الظلـمة الى النـور. ومن الشك الى اليقـين.ومن الجهل الى العلم.ومن الضلال الى الهُدى. فالجاهـلون المتخلفـون لا يمارسون إلا جهلهم وتخلّفهم وانحطاطهم. إنهـم عبـيـد جـهـلهـم وتـخـبطهم وبـلبلاتهـم وعـقـدهم وأمـراضـهـم النفسية التي لا تسمح لهم بأن يكونـوا أحـرارا ً. الحرية لا تكون من غير يقظة والحر لايكون بلا وعيّ . الحرية تحرر من الغفوة والجهل والخرافة والوهم والتكهّن .

وعلى عـكس الجاهليين الخرافيين يكون الواعـون العارفون العاقلون أحراراً بوعيّهم ومعرفتهم وتبـصّـرهم وصراعـيـتـهم ، حيث يـؤكـد تـنـبـُهـهـم ، وتـؤكـد مـمارستـهم لوعـيـهـم وبطولتهم على إصالتهم وعلى صـفـاء حريتهم وسـمـوّهـم في حـريـتـهم .

الحرية لا تكون من غير يقظة ونهضة، والأحرار لايكونون بلا وعيّ وادراك . الغفوة عبودية والخاملون عبيد . الوعيّ حرية والواعون أحرار . النهضة حرية والناهضون أحرار.

إن الحرية الإنسانية لا تـُحَــد لأنها لا تكون إلا بالمعرفة المتـطـورة النامية بـغـيـر حـدود . كـتـطـور المـجتمع ونـمـوّه وتساميه الذي ليس

لـه حـدود . أما العبودية فـوحـدها هي المـحـدودة بالغـفـوة والغـباء والخمول والجـهل والاتكالية والتـخـلـف والإنـحـطـاط .

 

المـقـوم الثاني : المناقب الإجتماعية

 

إن المناقب الإجتماعية الانسانية هي الشرط الثاني من شروط توفر مناخ الحرية التي يستحيل أن تكون وتـقـوم مع الرذائـل والمساويء والمـفـاسـد .

إن الحـرية مـنـقـبة . والحرية التي لاتكون مـنـقـبة وغيـرالمقـترنة بالمناقب الإجتماعية الإنسانية الراقية لا تكفي ولا تسمح أبداً أن يكون الـمـجـتـمـع حـرا ً ، وأن يكون أبنائه أحراراً . ولذلك   لا بـد من توفـر عـقـلية أخلاقية فاعلة يـمارسها الإنسان وعـيا ً، وتحقـيـقا ً ، واستمرار مـمارسة ، فـيعـبـّر بـذلك عن حـريته الصـحـيـحة السليمة محـبـةً، وعـدلاً، وحـقا ًوخـيـراً، وجـمالاً، ونظاماً، وقـوة، ومسؤولة ً، وعـطاء ً، وتضحية ، فـترتـفـع الحرية الى مستوى قيَمي ومناقـبي جـديـد وتـصـبـح، بالإضافة الى كـونـها قـاعـدة من قـواعـد النهضة القومية الإجتماعية ، فـضـيلة ً من فـضائـل هـذه النـهـضـة.

إن الذين يمارسون الفضائل باستمرار، ويعـملون ويعـطون ويبدعون ويصارعون ويـضحون في سبـيـل تحـقـيـق المـُـثـُـل ِ العليا العظيمة لأمتهم هـم وحدهـم الأحياء الأحرار بوعيهـم ومعرفـتهم ومناقبهـم وفضائلهم . والمجتمع الواعي المناقبي الفضائلي هو بالذات المجتمع الانساني الحر الذي يستطيع ان يكون قدوة حسنة لغيره من المجتمعات، ويستطيع ان يكون معلماً هادياً للأمم .

أما الذين يعيشون بالرذائـل المـتـأتية من جـهلهم وتـخـلفـهم وسوء طبائعهم فليسوا من الأحرار في شيء ، ولا يستحقون أن يكونوا أحراراً. فهم لا ينتمون الى مجتمع المعرفة بل ينتمون الى تجمعات القطعان . والقطعان التي ليس لها رعاة تمزّقها وتفترسها الوحوش .

 

المـقـوم الثالث : التـقـدم الإجتماعي الإنساني

 

إن التـقـدم الإجتماعي الإنساني ، فـضـلا ً عن كـونه ميزة من مزايا نـمـوّ الإنسان ـ المجتمع ، ونـمـوّ وعـيـه ،وسـمـوّ مناقبه، فإنه أيضا ً شـرط ثالث من شروط مناخ وجـود ،ونموّ، وسـمـوّ الحـرية . لأن المعرفة التي لا تنمو، ولا تتطور، ولا تتـقـدم وترتـقي، فإنها ليست معرفة فاضلة بـتحـجـّرها وانغـلاقها   وتـقـوقعها . هذه ليست معرفة بل هي حالة تحجّر تـُعـَـطـِّـل ، وتخـنـق العـقـل الإنساني بمفاهيمها الجامـدة ، وقـوالبها القاتلة . وتـتحـول الى درك رديء من دركـات العـبـودية .

إن قـدرة العـقـل الإنساني المجتمعي لا تـُحـَـد. والعـقـل السليم النامي هـو وحـده الذي يـضـع القواعـد ، ويـقـررالمفاهيم،ويكتشف النواميس ويـُذلِّـل كل عاصي. فإذا قـُولِبَ العـقـل بالقوانين،وحُوصِر بالنظريات والتنظير، وقُيِّد بعفن التقاليد والعادات والاعراف والخرافات والأوهام فـقـد بَـطـُـلَ أن يكون عـقـلا ً. لقـد” وُجـِـدَ العـقـل ليعـرف ، ليدرك ، ليتبصـر ، ليـمـيـّـز ، ليـعـيـّن الأهـداف ، وليفـعـل في الوجـود” على حـد تعـبـيـر المعلم أنطون ســعاده .

وبالعـقـل ليس للحـرية حـدود.لأن العـقـل يسمو ويتسامى بغير حدود. فحريتنا ، تقاس مـثـلا ً ، بـقـدر ما نكون نحن متـقـد مين وسبّاقين ومتفوّقين ومبدعين وخلاّقين في مضمار الحضارة ،وليس بنسبة ما نكون متخلفين ومتأخرين وخاملين ومتخاذلين . وحريتنا يجب أن تـقاس بالنسبة لما حـقـقـته أرقى المجتمعات الحضارية ، بل يجب أن تُـقـاس حـريات الأمم الـراقية بالنسبة لمفهـومنا القـومي المجتمعي المدرحي الراقي الجديد للحرية الذي تجاوز وتخطى أرقى المفاهيم . ولا يجوز أبداً أن نقيس حريتنا بالنسبة للمجتمعات المتخلفة الغبية .

 

مقومات الوعيّ والمناقب والتقدم

 

إن الـوعيّ،والـمناقب، والتـقـدم،هي مقومات أساسية وشروط مهمة ضرورية لا يمكن أن يتـوفــر مناخ الحرية المجتمعية الإنسانية بـدونـها . وهي:

وعي المجتمع حقيقة وجـوده ،ومصالح حياته،وتعيـين أهـدافه ومـُـثـُـله العليا ،

وهي ممارسة الفضائـل والمناقب القومية الإجتماعية لتوليـد عـقـلية أخلاقية جـديدة جـيـدة ،

وهي صـراع بالوعي والمناقب وتقدّم بطولي لتحقيق أسمى المـُثـُل وأبعـد المرامي التي تليق بأصحاب النفوس الحرّة الجميلة العظيمة.

 

المفهوم الجديد يستوعب جميع المفاهيم

 

هذا المفهوم الجديد للحرية قادر أن يستوعب جميع المفاهيم الجزئـية للحرية في العالم لأنه يقول بحرية المجتمع كل المجتمع.وليس بحرية فـرد أو أفراد، ولا بحرية فئـة، أو حرية طائـفة أو طبقة. إن المجتمع هـو حـر بقـدر ما فيه من وعيّ ومعرفة ، وبـقـدر ما يمارس من المناقب والفضائـل ، وبـقـدر ما يحـقـق من التقدم والإرتقاء .

ولذلك فإن المجتمع الحر هـو وحـده الذي يتمتع فيه أبناؤه كل أبنائه بالحـرية . فـهم أحـرار لأنهم من مجتمع وفي مجتمع حـر . أما الذين يقولون بحريات سياسية او اجتماعية او أدبية أو اقتصادية أو دينية أو جزئية وعلى أساس فردي أو فئوي ، فإن مفاهيمهم تبقـى قاصرة عن مفهوم الحرية السليم الشامل كل هذه الشؤون . وحبذا لو استبدلوا كلمة الحريات بكلمة حقوق لكان أصح وأصوب .

 

المفهوم الجزئي للحرية لا يرتقي الى المفهوم التام

 

إننا نقبل مفاهيمهم من حيث هي مفاهيم جزئية ، وليس من حيث هي مفاهيم شاملة . فالحرية التي تقول بها الرأسمالية الفردية مثلا ً ، والتي تبيح للفـرد في المجتمع أن يعـتـقـد بما يـريـد ، ويـقـول ما يـريـد ، ويـعـمـل ما يـريـد ، ليست حـرية حـقـيـقية صحيحة شاملة . فما هي قيمة إعـتقاد أو قول أو عـمل الفرد الجاهلي السيء المتخلف الشرير المجرم  في ظـل الأنظمة الجائـرة الفاسدة المستبدة المستغلة نشاط وجهود ونتاج الملايين لمصلحة فـئة ظالمة جـشعة خائـنة متآمرة على أبناء مجتمعها ؟!

إننا نـقـول أولا ً بتحرير الفـرد من عـقـد المخاوف والأوهام والمفاسد والحاجات المادية والروحية وأمراض الأنانية والفـئـوية والطائفية والمذهبية والكيانية الضيقة. وتحريره أيضاً من العادات والتقاليد والأعراف البالية النتنة العفنة ،ونعمل لإيجاد النظام النهضوي الجديد، وتوفير المناخ الصحيح الملائم، ليصبح لإعتقاد الفـرد وقوله وعمله وممارسته قيمة الحرية بـتـربيته على الـوعيّ ، وتـدريبه على حيـاة المناقب ، وتأهيله وتشجيعه على التقـدم والصراع ، واطلاق مواهبه وقـدراته ليبتكـر ويبـدع أرقى ما تستطيعه النفس الانسـانية الحـرة المبدعة من ابتكار وابداع .

 

مـفاهـيـم جـزئـية

 

أما الحرية الإقـتصادية التي قالت ونادت بها الفلسفات والمذاهب الاقتصادية المادية ، والتي لاقت استحسانا ً عـنـد الكثيرين من الناس ليست أكثر من دليل على وجود الخلل والأخطاء في المفهوم الرأسمالي الفـردي للحرية .

فبدلا ً من أن تكون الأقلية العددية متحكمة بحياة المجتمع ، ومسخـّرة كل جهوده لمنافعها بتسلطها على مصالح حياته ، وتسخيره لخدمة أغراضها الخصوصية الشخصية في النظام الرأسمالي الفردي ، فـقـد شددت الماركسية وحرضت على ثورة طبقة الأكثرية المسحوقة المحكومة على الطبقة الحاكمة والعمل من أجل إذلالها والسيطرة عليها وإنشاء :”دكتاتورية البروليتاريا “مكانها مجزئةً بذلك المجتمع ومـدمرةً وحدته باقـتـتال داخلي ، ومعطلة وعيه ، ومحطمةً مناقبه وروحيته وقيمه ، وقاضيةً على كل امل بالتقدم والرقي ، لأن ” كل مجتمع ينقسم على نفسه يخرب ” كما علّم رسول المحبة والسلام يسوع السوري .

إن المفـهـوم الماركسي ـ بـدلا ًمن التركيز على وحدة المجتمع ـ شـدّد على تـفـتيته بحجة توحيـده ، وأثار الضـغائـن والأحـقاد في نـفـوس أبناء المجتمع  فانـشلت حـركـته الإنتاجية ، وتـعـطـل فـعـل طاقاته التي يـجـب أن توجـّـه كلها لتحسين أوضاع المـنـتـجـين بـتـحـسين حـياة المجتمع وتـرقـيـته بـتـمام وجـوده .

 

وهـو أيـضا ً ـ بـدلا ً من الرؤيـة العلمية الوقـعـية للعالم الإنساني كـواقـع مجتمعات متمايزة بحضاراتها ومواهبها وقـدراتها ـ فإنه تجاوز هـذا الواقـع وأثار بين الشعـوب حروبا ً على غرار حـروب الـدول الرأسمالية الإستعمارية أدت الى استعباد كـثيـر من الشعـوب المـتـخـلفة بـدل مـساعـدتـها على النـهـوض والتـقـدم . فـصارت العلاقة بين الشـعـوب عـلاقة تابـع ومـتـبـوع ، وعلاقة عبيد وأسياد بـدل أن تـكـون عـلاقـة التـعاون بين المجتمعات الناهضة وعلاقة الإخـاء الإنساني التي هي في أساس الحـضارة العالمية والتـقـدم الإنساني ويـجـب أن تـكـون .

إنـنا نـجـد ـ في الحـقـيـقة ـ أنه كما قـصـّر المـفـهـوم الرأسمالي الفـردي الإستعماري التـسلطي في معالجة مشاكل العالم فـكـذلك قـصَّر أيـضا المـفـهـوم المـضـاد.

 

النظريات تتطور وتتغير بحركات الشعوب

 

ان تـطـورات المجتمعات وحـركات الشـعـوب كـانت أقـوى من أن تـسير بـحـسب نـظـرات ونـظـريات وضعها مـدَّعـو الفلسفة والعلم ، وتـقـبّـلها الكـثـيـرون من أبـنائـنا   غـبـاء ً وجهلاً دون ان تستيقظ فيهم روح المبادرة والعزّة والابداع .

إن النـظـريات والقـوانـين والمباديء والدساتـيـر والأنـظـمة وكل ما يمكن تصوّره من الشرائع والأفكار هي لمـساعـدة الشـعـوب على تـحـسين حـياتـها ، وتـرقـية مـصـيـرها .

 

ان جميع النظـرات والنظـريات الـروحية أو المادية أو التوفقية أو الاصلاحية كانت وتـبـقى وسـوف تـسـتـمـر على مـشـرحة تـطـور الشـعـوب ونهضاتها وثـوراتـها . وحتى الأديان نـفـسـها هي خـاضعة لحالة الـنـمـوّ والـتـطـور والتـغـيـيـر .

وتـكفي نـظـرة بسيطة الى التاريخ لـنـجـد كـيـف تـرومـنت المسيحية

في روما ، وتـسـكـسـنـت في انكـلـتـرا . وكـيـف تـتـركت وتعثمنت المحـمـدية في تـركـيا ، وتـعـجـمنت أو تـفـرسنت في إيـران . وكيف تروسـنت الماركسية في روسيا ، وتصـيـّنت في الصين ، وتكوبـنـت في كوبا. وكـيف تفرنست النظريات الأخرى من هيغلية وشخصانية في فـرنسا ، وتأمـركت في أميركانـيا . وتدرج تأقـلـمـها صعـودا ً أو هـبوطـا ً في الشعوب النامية التي مـا تـزال تعاني من إسـتـغـلال الـدول القـوية الإستعـمارية .

إن كـل المزايدات اللفظية الكلامية والدعايات المغـرضة لا يـمكنها أن تـقـوم مـكان الحـقائـق والـوقائـع والأرقـام .فالفـرد مثلا ً في ظـل الأنـظـمة الـرأسمالية الـفـردية الإستعمارية هـو حـرٌ في الظـاهـر في أن يعـمـل أو لا يعـمل.ولكـنه في الحقـيـقة والـواقـع والمحسوس هـو مـُجـبـَرٌ ومُكره لكي يـعـيش أن يـعـمـل تـحـت أقـسى الشـروط التي يفرضها عليه أرباب العـمـل وأصـحاب الشـركات وجـمـيـع المـهـيـمـنـيـن على أرزاق الناس . ولذلك فإن حـريـته هي حـرية العـبـودية والـذل ، ولـيـست حـرية الكـرامـة والـعـز. والافضل ان نستبدل كلمة حريته بحقوقه المهضومة المسلوبة التي جعلته فريسة للخنوع والاستعباد .

والـفـرد ، أيضا، في الأنظمة الماركسية الإشتـراكية حـرٌ في ممارسة الـدعاية والتبشير والدعوة الى اعـتناق عـقـيدة مادية والعـمـل على تـقـوية وتعزيز سلطة الدولة التي تشكل في حـد ذاتها شركة كـبـرى يديرها ويسيطر عليها حـفـنة من الذين بـرعـوا في تزوير الحـقائق وتـضليل الناس واستخدامهم كرها ً أو طوعا ً من أجل مآرب خاصة جزئية وفـئوية متذرعين بفلسفة مادية مصورينها للناس على انها عقيدة العقائد،ونظرية النظريات التي لا نظرية قبلها ولا نظرية بعدها مع أن الـدولة هي المظهـر الثقـافي التـنظيمي السياسي للأمـة وليست سلطة وسوط استبداد وطغيان .

وهي في الحقيقة نظرية دعاية خادعة لا تـخـدم سوى المسيطرين والمهـيـمـنـيـن على مراكز القرار والتقرير في الحزب أو الأحزاب التي تسيطر على مقدرات الدولة والأمة.

 

وكذلك حال المواطن الفرد في ظـل الأنظمة العسكرية التوتاليتارية الذي تأمنت له لقمة العيش في خـدمة الحكومة المستبدة الجائرة ، وتـأمن له العـمـل في حقولها ومصانعها ومزارعها ومكاتب شركاتها فأصبح غيـر قادرـ مهما وجـد النظام ظالما ً ومجحـفا ً وسيئـا ًـ أن يمارس حقـوقه ويقـول رأيه بصراحة أو يحتج أو يـرفض أو يبرز مواهبه في غير الخط المرسوم لـه، وليس لـه إلا الوظيفة المقـررة لنشاطه واستخـدامه من قبـل الطغاة المستبـدين والمسيطرين على مـرافـق الـدولة في حكومتها الجائـرة .

 

إن حـرية الـفـرد والافضل ان نقول حقوق الفرد في هـذه الأنـظـمة هي حرية او حق اي واجب التبويق والتصفيق للأسياد الذين يستخدمون الناس عبيدا لقاء لقمة عيشهم مجبرين على أعمال لا يـقبلها حـق،   ولا تقر بها عدالة، وليست حرية الأحرار الأعزاء الذين لا يـقـبلون بـغـيـر عـيـشة الشـرفاء ، وحياة الكـرماء في أمة حرّة .

 

الحـرية المجتمعية هي حرية الصراع والتقدم

 

فلسفة انطون سعاده المدرحية القومية الاجتماعية تقـول بالإنسان ـ المجتمع الذي هـو مصدر الفـرد، ونطاق بروز وتحـقـق شخصية الفـرد ، والضامن لإستمرار وجـود وخـلـود الفـرد .

فـفي المجتمع أصـل الفـرد ومـصـدره . وفي المجتمع بروز شخصية الفـرد وتحقـق كيانه وشخصيته . وفي المجتمع الحر يكون بقاء الفـرد وخلوده حراً. والفـرد الحر هو ابن المجتمع الحر . ودرجة حـرية الفـرد ترتـقي وتـرتـفـع سويتها بنسـبة ما يـتوحدن بقـضـية مجتمعه وبـقـدر ما يـعـمـل الفـرد من اجـل عـزة مجتمعه ورقيه. وليس بنسبة ما يـنـعـزل ويـغـتـرب عن قضية مجتمعه.

ان في انعـزال الفرد عن مجتمعه أو في استغلال الفرد لمجتمعه من أجل منافع فردية خصوصية تنكر للوعي والمناقـب والرقيّ يؤدي الى الشلل والانسلاخ والتقـزم والتـصـنّـم والذبول والإنهيار. والحرية لا تكون أبـدا ً شللاً وتقزما ً وتصنماً وذبولاً وانهيارا ً ، بل هي دائما انفتاح لا نهاية له ، وحـركة لا تتوقـف عن الفـعـل ، ونـمـوٌ من طبيعته الإستمرار والازدهار .

من طبيعة الإنسان الـنـمـوّ . والنـمـو هـو نـمـوّ الوعي والفكر . فاذا توقف الانسان عن النموّ سقط وتلاشى ومات . والحرية لاتكون بالسقوط والتلاشي والموت بل تكون بالحياة .الحياة حرية . والحرية حياة . والأحياء هم الأحرار . أحرار بالحياة .أما الأموات فهم العبيد . عبيد بالموت . الحرية مظهـر نمـوّ الفكر الذي يـوجـّه الإرادة، فتسمو الإرادة بحرية الفكر وتزيده وضوحا ًوقـوة ًوفاعلية ، فيزداد تـألقـا ًويزداد المجتمع تقدما ً وحرية، ويصبح الإنسان مؤهلاً لتحقيق : ” الحياة الأجـود في عالم أجمل وقـيـَم ٍ أعلى  .” كما عبّر عن ذلك عالم القومية الاجتماعية وفيلسوفها أنطون سعاده في كتابه ” الصراع الفكري في الأدب السوري” حيث يصبح لـقـاء الأمـم الحـرة الناهضة سبيلا ًالى الإرتـقـاء الإنسـاني الصحيح وبلوغ عالم ٍموحـّد وعولمة مناقبية راقية تقوم على قيم الحق والخير والجمال ” إذا كـشـفـت مـخـبـآت الأبـد أنـه سيكون ممكنا ً احـداث ذلك العالم .” كما قال سعاده في مؤلفه ” نشوء الأمم ” .

 

الحرية مجتمعية والمجتمع الحر هو المجتمع الناهض

 

إننا ننطلق في فهمنا من وحدة حياة المجتمع وليس من تجزئـته الى فتات . ننطلق من المجتمع وتمامه وشموليته وليس من الفرد وجزئيته ومحدوديته ، وذلك اعتماداً على ما توصل اليه العالم الاجتماعي انطون سعاده في نشوء الأمم في الفصل السادس الصفحة 91 حيث قال:“وفي أحط درجات الاجتماع البشري وأبسطها نجد الجماعة أو العشيرة وعبثاً نحاول أن نجد الفرد ، فهو لا وجود له اقتصادياً ولا حقوقياً ولذلك فهو ليس بداءة الاجتماع ولا شأن له في تعيين الاجتماع وكيفيته .”

وعلى أساس ما تقدم نرى في كمال وجـود أمتـنا   وتمامه وجودنا الكامل الفاعـل كأفراد، فنرفض كل ما من شأنه تجزئتنا وتفسيخنا أرضا ً وشــعباً وحضارة وتاريخاً.

نحن وحدة حياة .شعب متفاعل مع أرضه وارض متفاعلة مع شعب متسلسل ومتتابع الاجيال هي أساس حياته. لا قيمة للأرض بـدون شعبنا وحضارته . ولا وجـود للشــعـب والحضارة بدون أرضنا. ولا معنى للأرض والحضارة بـدون شـعـبـنا .

ولأننا وحدة حياة على هذا المستوى ، فإن كل فرد من أفرادنا ينمو ويجب أن ينمو بنموّ مجتمعه ، ومن حقه أن ينمو ، ولا معني لوجوده وشخصيته بغير نموّ. وعلى كل حكومة في دولته أن تسهر وتحافـظ وتعمل على نموّ وتـقدم وارتقاء كل فـرد دون تمييز، ودون تحفّـظ ودون تبرير او ذرائع تضليلية خادعة . كما عليها أن تحافـظ على كل شبر من أرض الوطن لتبقى سلامة الوطن والأمة مصانة . وينبغي على الحكومات أيضا أن تـوفـر للشعب كل أسباب ووسائـل تنمية الحضارة وتوسيع آفاقها .

بهذه الأمور المتقدمة تكون الأمة حـرة ويكون أبناؤها أحراراً ، ولا

معنى للحرية إلا بالنهضة وبالقدرة على الإبداع وتحمـّل المسؤلية   وممارسة فعل الصراع سحقا ً للبـاطـل وانتصارا ً للحـق . انتصار حقنا وسحق باطل أعدائنا ليعودوا الى جادة العدل والصواب .

إلا أن الـنـمـوّ الذي أشرنا اليه لا يكون أبدا ً ولا يستقيم بغير انتاج .

والإنتاج بـدوره مـتـنوع يشمل العلم والفكر ، والصناعة والزراعة ،

والفن والإبداع ، والتضحية والصراع . ولهذا كان مبدأ الإنـتـاج في

مفهومنا أنه :”يـجـب على كل مواطن أن يكون منتجا ًبطريقة مـا.” فمن لا ينتج ليس حراً لأن البطالة أم العبودية ، ليصح أن يكون مبدأ الحق في المجتمع الحـر هو أن :” لكل مواطن نصيبه العادل من الإنتاج العام .” في المجتمع كما توضح مباديء الفلسفة القومية الإجتماعية. ومبدا الإنتاج لايتفق ولا يتوافق أبدا مع هـدر طاقات المجتمع وفعالياته لأن في هدر طاقات المجتمع وبعثرة موارده تعطيل وتشويه للحرية واستسلام للعبودية .

المجتمع لا يتقدم ويرتقي باستنفاد واستهلاك كل جهود المواطنين وارهاقهم ، بل يتقدم المجتمع بتهيئـة مناخ الإنتاج الفكري ـ العلمي ـ الصناعي ـ الزراعي ـ الفني ـ الإبداعي ـ البطولي وتنظيمه ورعايته وتأمينه لما فيه مصلحة الأمة وسـلامة الدولة الجديرة والمؤهلة لخدمة مصالح الأمة وأهـدافـها بحيث تتأمن مصلحة كل مواطن وسلامته في الحياة الجيـّـدة المتـنامية العزيزة الحرة . وحيث يعمل المواطن ليس خدمة خصوصية لبعض أفراد ، ولا لشركات ، ولا لمرافق حكومية ، ولا لأغراض جزئـية ولا حتى لإنتاج بذاته مهما كان هـذا الإنتاج ، بل انه يعـمل في سبيل تحقيق الحياة الجـيـّدة المـُثـلى لأمته المتحدة حياته بحياتها والتي لا جودة لحياته إلا بجودة حياتها . هكذا يكون الفرد الانساني حراً بوعيّه ومناقبه وانتاجه وصراعه وابداعاته وتضحياته في سبيل انتصار مقاصد أمته العليا   وغاياتها الشريفة ، وقـضـيتها   العـُظمى الـتي تنطوي على أجـمل مقاصده ، وأشرف غاياته . وتعـبّر عن استقلال فكره وصحة إرادته وسلامة حـريته .

هذه هي الحرية المنقبة القيمية الكامنة في انسانية الانسان- المجتمع ووجدانه الاجتماعي، والمستيقظة فيه، ولا تُنتزع منه، ولا تُمنح له، وباقية فيه حـركة صراع لتحقيق كـل ما هـو أفضل للحياة جماعةً وأفراداً ومجتمعاً وأجيالاً ترتقي بممارسة الحرية، والمفاهيم الفكرية الفاضلة التي تتحقق بالصراع الدائم ولايجوز أبدا ً أو يحق أن تطبّق على المجتمع أية فكرة أو نظرية أوأمر استذواقي استنسابي كما لوأنه مادة من مواد الإختبار في المختبرات العلمية .

 

عقيدة الوعي المدرحي القومية الاجتماعية

 

بناء على كل ما تقدم بالضبط كانت الضرورة لتولـيـد عقيدة الوعيّ القومي الإجتماعي في كل أبناء المجتمع،وإيقاظ وجدانهم المجتمعي العام، وتنبيهـهم الى قضية وجودهم   وحياتهم ومصيرهم ، وكانت بالتالي أهمية توفير المناخ الصحيح الملائـم لتأمين ســلامة نـمـوّهم في توليد نظام جديد تتحقق بواسطته مباديء عقيدة الحرية الجامعة لمختلف العـقائـد وغاياتها الـراقية التي هي مـزيد من تحقيق الحق والخير والجمال، واستمرار ارتقاء الحق والخير والجمال باستمرار ارتقـاء الأمة الحـرة المتحـررة بالمعرفة والفضبلة من كل المثالب والرذائل والجهالات .

 

إن المواطن الفـرد كما تبين في الأنظمة المشار اليها هـو حـر في أن

يكون عـبدا ً للفكرة والنظرية والحزب وحكومة الدولة والمتسلطين

على مقـدراتها ومرافقها ووزاراتها ، وحر أيضاً بالتجـرجـر وراء الوعود الخادعة والدعايات المضللة والأوهام الرومانسية السرابية . لكنه أبدا ً ليس بحر ان يمتنع عن تنفيذ الأوامر مهما كانت خاطئة وظالمة ، وليس بحر ان يتخلص من التقاليد والاعراف والخرافات مهما استفحل شرها .

من الأمور البديهية أن يضحي المواطن الفرد بنفسه من أجل حياة

مجتمعه لأن في حياة المجتمع وسعادته تكمن حياة الفرد وسعادة الفرد. أما التضحية في سبيل فكـرة أو نظـرية أوحكومة او رئيس بشكل لايخدم مصالح الأمة وأهدافها في الحياة، وممارسة الإستقلال الـروحي ، وسيـادة ذاتية الأمة العامة ، والمصيـر العـزيـز فإنها تضحية خرقاء تصغرأمامها كل الأضاليل والأخطاء والجرائم .

 

إن التضحية ليست من أجل التضحية ، بل يجب أن تكون التضحية من أجل قضية عـُظـمى تساوي وجود الأفراد في بقاء مجتمعهم حراً ونـمـوّه متقدماً واستمراره راقياً . وهذا هو مفهوم التضحية في عقيدة الحرية القومية الاجتماعية التي هي حركة صراع في سبيل الأرقى .

فوجود الفرد ما كان بالإنفصال عن المجتمع . وبقاء الفرد يستحيل أن يتم خارج بيئة حركة المجتمع. ولا حرية للفرد إلا اذا كان مجتمعه حـرا . والمجتمع الحـر لايمكن ان يكون حـرا ً إلا إذا كان جميع ابنائه أحرارا ً، واستمـرت أجياله تمارس الحـرية وعيا ً ومناقبا ً ، ونـمـوا ً وانـتـاجا ً ، وصراعا ً ورقيا ً.

 

بهـذا المفهـوم للحـرية يصبح أي اعتـداء على أي فـرد من أفـراد المجتمع أو أي شــبر من أرض الوطن هـو اعتداء على الشعب كله ، واعتـداء على الحـرية ذاتها ، وتهـديـدا ً لـوحدة الـوطن وسلامته ، ووحدة المجتمع وصلاحه وعزة مصيره. والاعتداء هو الباطل الذي ترفضه الحرية ويقاومه ويحاربه الأحرار . ويصبح في المقابل أيضا أي تساهل بحقوق أي مواطن أو أي تنازل عن شــبر واحد من أرض الوطن هو تساهـل بحقوق الشعب كله وتنازل عن أرض الوطن كلها. كما أن أي ويـل أو كارثة أو نكبة تنزل بأي فـرد من أبناء الأمـة ولا ترد الأمة كما ينبغي أن ترد وتحمي أبناءها، فإنها تعرض شخصيتها للإنهيـار وسيـادتها للضياع وحـريتها للسـقـوط. وكـل أمـة تـنهـار شخصيتها وتـفـقـد سـيادتها على نفسها ووطنها ، ولا تحمي نفسها بحماية أبنائها وحماية وطنها تسقـط لأنها غير جديرة بالحياة والحرية،وغير مؤهلة للتنّعم بالعزّ والرقيّ . ومن المحال أن يعيش أبناء المجتمع الحر في ظـل التخلف والجهل والمثالب والإنحـطـاط   والذل والعبودية .

 

فالحق الانساني الطبيعي هو احترام حقوق المجتمعات الطبيعية في وجودها وممارسة حياتها بكرامة وتقرير مصيرها بعزّ.

والباطل هو العدوان على حقوق الشعوب وانسانية الشعوب .

والحرية في مفهومها المدرحي القومي الاجتماعي الانساني لا تكون الا مع الحق وفي مهاجمة الباطل .

الحـرية ممارسة يمارسها أبناء الحـق تفـوّقاً في الوعيّ، وتفوقاً في المناقبية الأخلاقية ، وتفـوّقاً في الصراع البطـولي المـؤيـد بصحة النظرة والرؤية والمباديء والغاية والمُـثُـل العليا . وهي هي النقيض للعبودية التي هي انحطاط في الطبع والطبيعة ، وسيطرة التخاذل والاتكالية والخنوع ، والاستسلام لتراكم ما أفسده الدهر وما اهترأ وتعفّن عبر القرون ، وما تقيأ به مجرمو الأمم من جور وطغيان وأجرام .

 

الحـرية هي الأحـرار في مجتمع حـر

 

إن الحرية هي الأحرار. وإن الأحرار هم الأمة الحرة. والأمة الحرة هي الأمة الواعية مسؤليتها ، والقوية بوعيها ، والنظامية بحـريتها ، والحـرة بنظاميتها ، والعادلة بحقها ، والمحقة بعـدالتها، والخيـّرة بجـمال نفسيتها ، والجميلة بـخـيـِّر انتاجها وابداعها.

الأمة الحـرة هي التي تعـرف حقـوقها وحقـوق غيـرها من الأمم وتحترم هذه الحقوق وتناضل من اجل الحفاظ عليها . فلا تتنازل عن حقوقها لغيرها ، ولا تعتدي على حقوق غيرها.انـها الأمة التي تـعـرف واجباتها ومسؤلياتها وتمارس مسؤلياتها وتقوم بواجباتها ليس اكراهاً ولا طمعاً ولا خداعاً وغشاً بل تقوم بكل ما تتطلبه الحرية العصية على القهـر .

الأمة الحرة تـدرك وحدة حياتها ومصالحها واغراضها ومقاصدها ومـثـلها العليا وتجاهـد في سبيل تحقيقها بكل ما تستلزمه الحرية من وعي وعزم وارادة وجهاد دون الاعتداء على غيرها لأن الاعتداء هو الباطل . وهي لا تقبل اعتداء غيرها عليها لأن قبول الاعتداء والخنوع له هو أشد أنواع الباطل فظاعة .

هذا هو مفهوم الحرية في فلسفة انطون سعاده المدرحية القومية الاجتماعية الانسانية . لأن الحرية اجتماعية انسانية ولا وجود لها بالنسبة لنا كبشر خارج نطاق الاجتماع الانساني .

الأمـة الحـرة هي التي تعـمـل من أجل اكـتـشـاف أعـداء الإنسان والحـرية لتطاردهم وتحاربهم وتنتصر عليهم بانقاذهم من نفسية التعدي والعدوان وايقاظ جوهر الانسانية فيهم . انها تـحـمـل رسـالة الهـُدى والحياة والحرية الى جميع الأمم والشعوب ، واضعة ً حـدا ً لأطـماع الجماعات الهمجـيـة المتوحـشـة ، مساهمة ً في انشاء المدنية الإنسانية وبنائها وتـرقـيتـها ، مـبـدعـة ً ومبـتكرة ً أروع وأجمـل ما تُؤهـلها نـفسـيتها العظيمة على ابتكاره وابـداعه من خِـطـَـط التـفـوق الإنســاني .

لن نسـتـطـيـع أن نكـون أحـرارا ً ، ولـن نسـتـطيع أن نـنـعـم بالحـرية وفي شعبنا مواطن فرد واحد جائع أو جاهـل أو مُهـان ، ومن أرضنا شـبـر واحـد مُغـتَصَب . ولن نستطيع أن نكون أحرارا ً أيضا ً وأمتـنا ليس لها دور في صناعة أوالمساهمة في صناعة وكتابة تاريخ مـدنية الإنسان على هـذا الكوكب لسبر أغوار هـذا الكون الامتناهي الماثل أمامنا واكتشاف ما يمكن اكتشافه من أسرار الوجود ومخبآت الآفاق.

 

الحرية تعـني الحياة الجـيـدة لكل مواطـن ، وتـعـني أيـضا ً ســيادة الأمــة الكاملة على نفسها وعلى وطـنها . وتعني الخـروج من الظلمة الى النــور، ومن الضلال الى الهُدى ،وتعني نهوض الأمم وتعاونها فيما بينها   لخلق الإنسان البشري الإنساني .الإنسان ـ النـوع النـوعي الذي شاءته العناية الخالقة متميزا وسـيِّدا ً وممثلا ً لها على الأرض في هذا الوجود وليس في غير هذا الوجود .

الحـرية تعني تحقيق وتحقق ارادة حياة الحق العزيزة الحـرة التي يكون انتصارها كما قال فيلسوف المدرحية القومية الاجتماعية أنطون سعاده : ” الانتصار لا يكون الا بالحرية . فالحرية صراع . ليست حرية العدم، بل حرية الوجود. والوجود حركة. هي حرية الصراع. صراع العقائد في سبيل تحقيق مجتمع أفضل ولا معنى للحرية وراء ذلك . ويل للعقائد الباطلة من الحرية، لأن الحرية صراع ! الصراع امتحان العقائد والقيَم ، وهو امتحان النفوس ! ونهايته دائما غالب ومغلوب !

الحق والحرية هما قيمتان انسانيتان من قيَم الانسان-المجتمع ! كل مجتمع يفقد هاتين القيمتين يفقد معنى الحياة السامي ! الحياة بدون هاتين القيمتين عدم!”

وقال أيضاً سعاده:” ليست قيمة الحق ولا قيمة الحقيقة والخير والجمال مادية ، فهي لاتقاس بالسنتيمترات ولا بالأمتار المربعة  أو المكعبة، ولاتوزن بالأواقي والأرطال ، ولا تحدُّ بمكان وزمان معين، إنها قِيَمٌ إنسانية- نفسية إنها قيم مجتمعية “.                  

الحرية هي نور الحق نيّةً وممارسةً ونغماً يحرّر النفوس من أوهام الباطل ، وعبودية تيه الجهالة ، وضلال التشبث بأضغاث الاحلام، وسموم الارتماء في مقابر الاتكالية وسراب المنى. الحرية لا تنتصر الا بالحق والحق لايثبت الا بالحرية.فمجتمع الحق هو مجتمع الحرية والمجتمع الحر هو مجتمع الحق . وكلام السيد المسيح الى أتباعه هو الحكمة الخالدة: “أعرفوا الحق والحق يحرركم (يوحنا 8: 32) .

                

هذا هو مفهوم الحرية كما أراه في فلسفة أنطون سعاده المدرحية القومية الاجتماعية . ان الحرية هي احدى القيم الانسانية النفسية المجتمعية وفي مقدّمة القِيَم . لا قيمة للحياة الا بالحرية. ولا حرية الا بالحق. ولا انتصار الا بالحق والحرية. ولا معنى للحق والحرية الا اذا كانتا قيمتين انسانيتين من قيم الانسان-المجتمع اللتين تجعلان حياة الانسان حياة هُدى متصاعد ، ورُقيّ متنامي ، وسُموٍّ متألق .

الحرية من حيث هي كلمة مؤلفة من حروف هي كلمة مبهمة وليست شيئاً على الاطلاق.أما اذا اقترنت بصفة الحريّ،فان المعنى يتجه نحو الوضوح ويقترب من التعريف والمعرفة لأن المقصود بالحريّ هو الجدير وجدارة الجدير تعني أنه مستعد وقادرعلى فعل الأجدر.وفعل الأجدرلايقوم به انسان جزئي جاهل أو غبي أبله أو خامل أو متخاذل أو مجنون أو شرير أو مخرّب يائس من الحياة ،بل يفعل الفعل الأجدر والأحسن هوالانسان التام الكامل الواعي النبيه الفهيم المتزن والعامل المبادر الشجاع، والعاقل الخيِّر الواثق من نفسه ، والمحب للحياة والمصارع على الدوام من أجل النهوض بالحياة ، وترقية الحياة وتسامي الحياة مع الأيام والسنين والعقود والقرون والعصور.

 

وهذا الانسان الكامل هو الانسان التفاعلي المنفعل الفاعل الذي لم ينشأ في الفضاء بل نشأ على الأرض وليس في كل الأرض بل في بيئة معيّنة حيث بدأ انساناً – مجتمعاً أنشأ ثقافته وحضارته وصنع تاريخه ولم تستعبده الأرض بامكاناتها بل كيّف امكانات الارض وأطلقها فحرر نفسه من الاتكالية والروتينية ، وحررالأرض من الاهمال والاختناق فبانت له حقيقة نشوء الحياة بتفاعل قوى المادة مع الروح ، والجوهر مع الوجود ، والزمان مع المكان، والأبد مع الأزل فأدرك بانسانيته المجتمعية أن أساس الارتقاء هو الأساس المادي – الروحي أي المدرحي ، واكتشف بهذا الادراك المدرحي – الاجتماعي -القومي الانساني أنه هو الانسان الحريّ والجدير والحر لتحقيق كل ما هو أحرى وأجدر وأجود، وانه باستمرار فعل الأحرى والأجدر والأجود عبر أجياله هو الحر القادرالمنطلق من قوة المعرفة ومعرفة القوة الحقيقية الملتزمة دائماً وابداً بانتظام ونظام فكرٍ ونهج كلما ارتقى وتعمّق واتسع فيه الفكر كان مفهوم الحرية فيه أرقى ، وكلما ارتقى مفهوم الحرية كان مفهوم النهج أصوب وأصح ، وكلما صار مفهوم النهج أصوب وأصح اتحدت الحرية بالواجب واتحد الواجب بالنظام واقترن النظام بالقوة حتى انعدمت الحواجز والفواصل بين الحرية والنظام والقوة والواجب في مدار فلك القيَم الانسانية العليا التي تصعد أو يصعد بها الانسان- المجتمع من الأرض باتجاه السماء قمة بعد قمة بعد تحقيق انتصاره على الأرض.

 

لا أحد يستطيع أن يكون حراً الا اذا كان مجتمعه حرّاً.والمجتمع الحر لا يمكن أن يكون حراً الا اذا تحرر بالمعرفة، ونهض بالمعرفة، وقام بواجب تعميق المعرفة، ومارس نظام المعرفة، وقوّى نفسه بالمعرفة، فاكتسب بحرية المعرفة وواجب المعرفة ونظام المعرفة وقوة المعرفة حياة مناقب وقيم وفضائل الحق والخير والجمال التي يرتفع بها الى الحياة الأجود والعالم الأجمل والقيَم الانسانية الأعلى والأسمى .

لقد ركزت فلسفة انطون سعاده المدرحية القومية الاجتماعية على تحقيق نهضة الأمة وعلى حريتها في نهضويتها لتشمل نهضة المجتمع جميع أبناء الأمة في جميع أجيالها ليتمتعوا جميعهم بحرية النهوض وحرية التقدم وحرية الرقي لكي لا يخجل الآباء من أجدادهم ولا الأبناء من آبائهم ولا ألأجيال القادمة من جيلنا ، ولكي لا تكون حريات الأمم عاراً عليهم.

 

الحرية لاتكون الا بالواجب والنظام والقوة                                                    

الحرية لا تكون حرية الا اذا كانت واجبة .وهي ليست حرة في ان تكون او لا تكون ،بل ان الحرية لتكون حرية حرة يجب أن تكون . والحرية الحرية هي الحرية الواجبة. والواجب الواجب لا يكون من غير نظام . أما الحرية غير الواجبة فانها ليست حرية بل هي الفوضى.والفوضى نقيض النظام. والنظام ليس نظاماً ان لم يكن واجباً يؤدي رسالة الحرية. وتأدية الرسالة ونجاحها لا تكون الا في القوة التي تحرِّك النظام . في العقيدة التي وراءه وفي الهدف الذي أمامه . والقوة لا تكون من الخارج بل من الداخل لأن الخطر من الداخل وليس من الخارج . القوة الحقيقية هي قوة الحياة التي تنبع من داخل النفس وليست قوة التراكم المتراكم من خارج النفس . القوة اندفاع مهاجم وليس مقاوم .الحرية انبثاق شعاع يمزِّق الظلام ولا يبقى من الظلام الا ما اختبأ في الدهاليز والكهوف والسراديب.

هذه هي الحرية الحرية التي يجب أن تكون . وهذا هو الواجب الذي لا يكون الا بالنظام . وهذا هو النظام الذي لا يحقق النجاح الا في القوة التي تحرّكه . وهذه هي القوة التي تنطلق من داخل الانسان صراعاً واعياً هادفاً حراً في سبيل حياة أفضل وأهداف أنبل ومُثُل أجمل وعالم أمثل .

لا معنى للحرية الا اذا كانت واجبة . ولا مغزى للواجب اذا لم يكن في النظام . ولا جدوى من النظام اذا لم تحرّكه القوة . ولا قيمة للقوة الا اذا قامت على المعرفة . ولا فائدة من المعرفة اذا لم تتحول الى عقيدة . ولا نفع من عقيدة اذا لم تنبثق من نظرية أصلية أصيلة جلية واضحة للوجود تحرّك مكامن الابداع في نفوس أبناء الأمة فينطلقون بثقة ويقين وايمان لتحقيق حياة أجود، ونشر فضائل أنبل ، وترسيخ قيم أعلى ، وبلوغ عالم أجمل .

الحرية في مفهومها المادي-الروحي القومي الاجتماعي في فلسفة أنطون سعاده هي بطولة عاقلة وعقلٌ منفتحٌ على كل حق وخير وجمال وعدالة ومحبة .

 

الرفيق يوسف المسمار

 

 

 

إقرأ أيضاً

Imensa e generosa obra do sociólogo e filosofo Antoun Saadeh

Imensa e generosa obra do sociólogo e filosofo Antoun Saadeh عمل عظيم وسخي للعالم الاجتماعي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *