انطلاقا من قول العالم الإجتماعي السوري أنطون سعاده مؤلف كتاب نشوء الأمم الذي يقول فيه : ” بعد الإطلاع يمكن تكوين رأي، وحينئذ لا يبقى مجال لحدوث بلبلة ” ، وبعد الاطلاع على الكتاب ودراسته بشكل هاديء يمكننا ان نتقدم بهذه الدراسة التي تعبِّر عما استخلصناه من الكتاب فيما يتعلق بنشوء الانسان .
أول ميزة تلفت نظرنا في مؤلف سعاده هو الاسلوب أو المنهج العلمي المنطقي القائم على اساس ابحاث علمية ، وتحقيقات دقيقة ، ومثابرة وصبر في استجلاء حقائق أشياء البحث بذهنية منفتحة سمحت للمؤلف بأن يصوغ كتابه الذي يشكل حاجة ماسة لا يمكن الاستغناء عنها للذين يسعون الى فهم الواقع الاجتماعي على أحسن وجه ، مستندا في دراسته الى مراجع علمية مختلفة وبلغات عديدة .
وبناء على ما تقدم يمكن القول ، اذا ، ان الكتاب ذو أهمية ويستحق بأن يقرأ ويحلل بشكل هاديء ، وبمنتهى الانتباه والعناية ، وطلب الفائدة لأنه دراسة اجتماعية علمية تهدف كما أوضح المؤلف في مقدمته الى : ” الى توضيح الواقع الاجتماعي الانساني في أطواره وظروفه وطبيعته “( المقدمة ص 24 ) كما يضيف على قوله أن كتاب نشوء الامم هو” كتاب اجتماعي علمي بحت تجنبت فيه التأويلات والاستنتاجات النظرية وسائر فروع الفلسفة ، ما وجدت الى ذلك سبيلا . ” ( المقدمة ص 26 ) ويضيف بعد هذا أيضا أن الكتاب المذكور قد ألفه من أجل أن يكون قاعدة أساسية علمية تقوم عليها حركة اليقظة القومية حيث يقول في مقدمة الكتاب : ” ولما كانت حاجة النهضة القومية الى هذا الأساس العلمي ماسة ، رأيت أن أدفع المخطوطة الوحيدة الى المطبعة وهي في حالتها الأصلية .” ( ص. 27 )
واستنادا الى ما ذكر أعلاه ، نستنتج أن سعاده قام باعداد دراسته ليس لارضاء رغبات شخصية , ولا لكسب مال ، ولا للحصول على شهرة كاتب ، بل أعد مؤلفه من أجل غاية واضحة ليكون أساسا علميا للنهضة القومية . واستناداً الى المقدمة يوضح سعاده بأنه أعد مؤلفه في جزاين لهدف واضح فتناول الجزء الأول : ” تعريف الأمة وكيفية نشوئها ومحلها في سياق التطور الانساني وعلاقتها بمظاهر الاجتماع .” في حين اشتمل الجزء الثاني على :” نشوء الأمة السورية ومحلها في سياق التطور الانساني وعلاقتها بالأمم الأخرى وبالاتجاه العام”. ( ص. 27-28 ) وقد صودرت مواد الكتاب الثاني ووثائقه من قبل السلطات الفرنسية المستعمرة خلال موجة الاعتقالات الثانية التي جرت في صيف عام 1936 .ولا تزال مواد الكتاب الثاني مصادرة حتى هذا التاريخ .
نفهم مما قاله سعاده في مقدمة الكتاب أن الهدف المهم النهائي لسعاده هو وضع أساس قاعدة متينة لنهضة أمته القومية وبالتالي لنهضة كل أمة تريد أن تنهض في العالم ، وقد سعى ما أمكن الى توضيح حقائق الاجتماع الانساني وجلاء الغوامض من أجل فهم أفضل لحقائق الأمم والقوميات .
فاذا تابعنا وتتبعنا نصوص كتاب سعاده فصلا بعد فصل ، نلاحظ أن الكتاب يدرس علميا ظهور اونشوء النوع الانساني ويتابع تطور الانسانية في جميع مراحل تطورها ، وأزمنتها ، ومختلف مظاهرها المادية والروحية ، محللا ، مناقشا ، وناقدا للتأويلات والنظريات والمفاهيم : الدينية والعلمية والسلالية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للعديد من العلماء والدارسين الذين تطرقوا الى هذا الموضوع في بلدان عديدة ولغات مختلفة ، ساعيا الى أعطاء شرح وتفسير أو توضيح مبني على براهين واقعية وعملية .
يبدأ سعاده في الفصل الأول بالموضوع الأهم والأخطر الذي واجه الانسانية وبقي بدون جواب نهائي فاصل منذ بداية الانسانية وحتى أيامنا هذه ولا يزال ، ألا وهو، بدون شك ، موضوع ” نشوء النوع الانساني ” ( ص. 29 )الذي كان عنوان الفصل الأول في الكتاب . وفي اعتقادنا سوف يبقى هذا الموضوع الخطير بدون جواب مقنع حتى نهاية تاريخ أجيال البشرية على كوكب الأرض .
يقدم سعاده منهجين لتوضيح حدث نشوء النوع البشري : الأول يقوم على أساس تأويل ديني ، والثاني على أساس تأويل علمي . والتأويلان معروفان بشكل واسع عند جميع الشعوب في العالم بكامله . ونلاحظ من خلال هذين التأولين ملاحظة مهمة وهي أن سعاده لم يسع الى مقارنة بين العلم والدين ، ولكنه يميّز بين المنهج الديني الذي يعتمده رجال الدين والمنهج العلمي الذي يعمل به العلماء ، مما أدى الى تأويلين أو تفسرين لحدث نشوء النوع الانساني ، كما نلاحظ أيضاً أنه فضـَّل المنهج العلمي في توضيح الواقع الاجتماعي ،ومتابعة تطور الانسانية منذ نشوء نوعها وحتى نشوء الأمة وظهور القومية ، مع لفت النظر الى أن سعاده عندما فضـّل اعتماد المنهج العلمي في موضوع هو من اختصاص العلم لم يرم الى نكران وتجاهل أهمية الدين وتأثيره في حياة الناس ، ولكنه أراد عدم الخلط بين الدراسة العلمية الاجتماعية والدراسة الدينية ، لأن لكل من الدين والعلم ميدانه وموضوعاته . واذا أردنا أن نعرف رأي سعاده في الدين ، فاننا نجده في مقال له نشر عام 1940 في جريدة ” سورية الجديدة ” في سان باولو – البرازيل حيث قال : ” فلو لم يتمكن الدين من تقديم البراهين العقلية التي يمكن ان تطمئن اليها أحكـام الأزمنة التي لم يـدركها العـلم الحـديث لما كان أقـدم الناس على الجهاد والتضحية . ولو لم يجد أهل أي دين أن دينهم يصلح وينظم طـرق حياتهم ومعاشهم في هذه الدنيا قبل الآخرة لما اعتنقـوه وتمسكوا به.”
فالمنهج الديني الذي استند الى حكاية خيالية خرافية أو قصة تأملية افتراضية له تأويله ،في حين أن المنهج العلمي كان له تفسير آخر نتيجة اعتماده على طريقة علمية حسية قامت على أساس الخطوات التالية التي هي : الملاحظة ، والبحث ، والتحليل ، والتجربة ، والدرس ، والمقارنة ، والمنطق ، والنقد ، والاستقصاء ، والاستقراء ، والتحقيق ، والاستنتاج والبحث عن كل الوسائل المتاحة التي تسمح بها عبقربة ومواهب الانسان .
وبهذا نكتشف السبب الذي حمل سعاده على انتقاد ونقض التأويل الديني المبني على اجتهاد تصوري وتخيّلي ،وفي نفس الوقت لم ينكر الدين وتأثيره ولا قلل من مكانته وفاعليته في حياة الأشخاص . ويمكننا أيضا أن نعرف تفضيله للمنهج العلمي في بحثه لنشوء النوع الانساني المستند الى التحقيق ، والدرس ، والتحليل والاكتفاء فقط بانتقاد التأويل العلمي من غير نقضه ،ومن ثم الموافقة على بعض التأويل العلمي والأخذ ببعضه أو رفضه ورفض بعضه الآخر ، مبدياً بعض ملاحظاته ووجهة نظره وبعض آرائه . ولهذا فضّل سعاده العلم وطرائقه لبحث نشوء النوع البشري الذي بات محصورا بين عمليتين :عملية الخلق وعملية التطور، ولم ينتقص من مقام الدين وتأثيره البليغ في حياة الناس . فاذا القينا نظرة سريعة على الدين،فاننا نستنتج أن الفكر الديني بحسب وجهة نظر سعاده هو ميل الى تطمين الانسان الذي يعيش قلقا أمام الموت والمصير . ولهذا نجد سعاده يعبِّر عن هـذه الظاهـرة في مـؤلفـه ” نشوء الأمم ” بقوله عن الانسان انه : ” أخذ يتكهن صدوره عن عالم غير هذه الدنيا يعود اليه بعد فناء جسده . ولم يكن هذا التكهن الراقي مما تنبه له الإنسان كما يتنبه للموجودات الواقعية ، بل كان درجة بارزة في سلـّم إرتقاء الفكر سبقتها در جات من التخرصات الغريبة التي ليس هذا البحث مختصاً بها . ولكن لا بد من الإشارة الى هذه الدرجة ذات صلة متينة بنشوء الدين وفكرة الله وحكاية الخلق المستقل التي أثـّرت فينا تأثيراً عظيماً “(ص.29 ). استناداً الى ما أوردناه ، بجب علينا أن نميّز ما بين الدين الذي هو نوع من الفلسفة والعلم وخاصة علم الاجتماع الذي يبق موضوع نشوء البشر والاجتماع الانساني وتطوره من اختصاصه .كما ينبغي علينا أن نوضح الفرق ما بين نظريتي: عملية الخلق وعملية النشوء التطوري أو التطور . وفي هذا كان سعاده صريحاً ، واضحا ، واقعيا ، دقيقا وموضوعيا حين أعلن من البداية في قوله : ” إن كتاب نشوء الامم كتاب اجتماعي علمي بحت تجنبت فيه التأويلات والاستنتاجات النظرية وسائر فروع الفلسفة ، ما وجدت الى ذلك سبيلا . واجتهدت الاجتهاد الكلي في الوقوف على أحدث الحقائق الفنية التي تنير داخلية المظاهر الاجتماعية، وتمنع من اجراء الأحكام الاعتباطية عليها ” ( المقدمة ص 26 ) ان سعاده لم ينكر أو يتنكر للدين ودوره ، ولكنه رفض التأويلات التخيلية الوهمية التي تقوم على الافتراضات و التخمينات والأوهام ، وسعى الى تشجيع العقول على التخلي عن الخرافات والتكهنات ، والتقدم الى أقصى حد ممكن، باتجاه العلم واعتماده فيما يتعلق بالواقع الطبيعي من أجل تحسين كل من مستوى العلم ودرجة مستوى الدين ، وتوسيع آفاق المـُثـُل العليا للشعوب . ولا يخفى على العقول السليمة الواعية الفرق بين دراسة تعتمد التأمل والتكهن منطلقا ، ودراسة تستند الى الواقع الطبيعي والبحث والتنقيب أساسا، خاصة ً، عندما نريد تكوين رأي منطقي ، وصياغة مفهوم معقول . فالنتائج بلا شك مختلفة ، وما كان للواقع أن يصبح خيالا ، ولا للخيال أن يكون واقعا . ويضيف سعاده على كلامه المتقدم ايضا فيقول : ” وليس القصد من بحثنا هذا الدخول في سلسلة الأبحاث الفلسفية/ العلميةالتي ينطوي عليها هذا السؤال .(صفحة 37 ) . لقد اتخذ سعاده طريقة في كل مؤلفاته بحيث يبتعد فيها عن كل فوضى رافضا لكل تخبط والتباس ، وهادفا دائما الى تعيين الاشياء بأفضل طريقة ممكنة لأن تحديد الأشياء أو التعيين بحسب رأيه هو : ” التعيين هو شرط الوضوح. والوضوح هوالحالة الطبيعية للذات المدركة الواعية الفاهمة.” ان السؤال الخطير الذي أقلق راحة البشر وواجه جميع رجال الدين والعلماء ، والاساتذة وطلاب العلم هو هذا السؤال :”من أين وكيف وجد الانسان؟ ” الجواب الديني كان حاسما ونهائيا وهو : أن الانسان وجد بالخلق مثل جميع انواع الكائنات الحيَّة التي خلقها الله . ولكن الجواب الديني يعني أن الخلق حصل بسيطا، ومباشرة، وكل نوعٍ وُجـِد بشكل مستقل عن النوع الآخر ، بينما كان الرد العلمي على السؤال مختلفا واتخذ منحى آخر ، وكان مؤيدا لعملية التطور . وينطبق هذا الأمر على أنواع النبات ، والحيوان ، والانسان ، بمعنى تحول النوع الى نوع آخر من الحياة . وهذه النظرية بحسب رأي سعاده كانت : ” نتيجة ملاحظات دقيقة ، لم يتح لها أن تبلغ درجة الكمال بالاستقصاء والتحري حتى القرن التاسع عشر الذي أخرج لنا الدروينية .”(ص 34) وقد تنبه الى هذه الظاهرة العالم الاجتماعي ابن خلدون في مقدمته ، كما أشار اليها سابقا الفيلسوف السوري أبو العلاء المعري .
أمام هذين المنهجين ( الديني والعلمي ) لاحظ سعادة أن المدرستين على خلاف جوهري ” فيما يتعلق بالحياة ، ومظاهر الكون، وحقيقة الأشياء بشكل عام.” ( ص 31 ) وقد قال في مؤلفه : “رأت المدرسة العلمية ان الانسان ليس الا كائنا واحدا من الكائنات الحية ،وانه خاضع للنظام الجاري عليها كلها .فحيث الحياة في كل مظاهرها غير ممكنة لا يستطيع الانسان أن يعيش . ولما كان الانسان مظهرا من مظاهر الحياة العامة ، فلا يمكن البحث في كيفية نشوئه على حدة ، ولذلك لا بد من جعل السؤال : ” من أين جاء الانسان ” ضمن نطاق سؤال اوسع هو : ” من أين جاءت الحياة . ” (ص32)
لقد حلل وانتقد علميا ومنطقيا التأويلين الديني والعلمي ، ولكنه اختار الطريقة العلمية في البحث وعارض التأويل الديني لأن موضوع نشوء الحياة الانسانية يتطلب الكثير من الأبحاث ،والتحليلات ، والتحقيقات والابتعاد عن التكهنات والأوهام والخرافات.
فاذا كان العلم لا يستطيع بحسب رأي سعاده أن يحدد بشكل صحيح الزمن الذي ابتدأت فيه الحياة ، ولا كيفية حدوث نشوء النوع البشري بالضبط ، ولا تعيين كيفية حدوث كل نوع ، ولا تعيين المكان الذي نشأ فيه نوع الانسان وتطور ، فان هذا لا يعني أبدا أن العلم لم يتوصل الى كشف القناع عن سر تنوع الكائنات . وفي هذا يقول سعاده : “إن ما لدى العلم من الحقائق والأدلة البيولوجية ، والانتربولوجية، والكيماوية والجيولوجية الخ … مايجعل العقل يدرك بالمنطق والشواهد ترابط الكائنات في سلسلة تطور الحياة .” ( ص 41 )
ما هو التعليل الديني لنشوء الانسان ؟
ما هو التعليل الديني وكبف لخص الفكر الديني عملية نشوء الانسان ؟ كان الجواب وفقاً للرواية الدينية هو التالي : لقد علل الانسان نشوء نوعه بخلق مستقل وذكره سعاده كما ورد في الكتب الدينية على الشكل الآتي : ” فجبل الله ترابا ونفخ فيه من روحه نسمة حياة . فخلق الله رجلا واحدا هو آدم ثم خلق له امرأة من ضلعه هي” حواء “وسنة التوالد تكفلت بتعليل تكاثر البشر وانتشارهم في الأرض ” ( صز 30 ). نلاحظ من خلال التفسير الديني أن عملية نشوء النوع الانساني هي عملية تركيب مستقل منفصلة عن نشوء غيرها من الانواع ، وهي عملية مباشرة و بسيطة وغير معقدة وهي ايضاً معقولة وسهلة على الفهم ولا تحتاج الى الكثيرمن المجهود العقلي والدقة في التمييز . ولكننا عندما ندقق جيّداً ، ونمعن النظر والتبصر في هذه العملية نلاحظ في حنايا التفسير الديني ما يفيد التناقض ، والكلام المتقدم يحتاج الى الدقة المنطقية والصدقية العقلية . فالخلق شيء والتركيب شيء آخر. فالخلق يعني ايجاد الشيء من لاشيء ، والرواية المتقدمة تفيدنا أن الله أخذ ترابا وجبله بسائل أي جبله بالماء حتى أصبح عجينا ثم نفخ فيه من روحه نسمة حياة فكوّن بذلك رجلا. هذه العملية هي عملية تركيب وليست خلق مباشر( كن فيكون ) . بعد عملية التركيب هذه نشأت عملية أخرى حيث أخذ الله من ضلع الرجل ضلعاً وجعله امرأة فتم الحصول على الزوج ( رجل وامرأة أي آدم وحواء ). ولكن هذه المرة كانت عملية استخراج وليست عملية تركيب (استخراج ضلع من آدم ) . وبعد عملية الاستخراج نشأت عملية ثالثة هي عملية الزواج بين الرجل والمرأة وحصول انتاج الذرية . وسنة التوالد تكفلت بتكاثر البشر . العملية الأولى هي ايجاد الرجل الأول التي كانت عملية تركيب . والعملية الثانية في خلق المرأة كانت عملية استخراج أي انتزاع ضلع من رجل . وفي كلا العمليتين كانت عملية نشوء الانسان عملية تركيب واستخراج مما هو موجود في الأرض . ومن العمليتين التركيب والاستخراج نشأت العملية الثالثة التي هي عملية الزاوج والانتاج وتكاثر البشر . هذه هي حكاية الخلق المستقل البسيط والمباشر وعليها بني التعليل او التفسير الديني . لكننا نستنتج من كل هذه العملية أن ما حصل هو تركيب مما هو موجود وليس عملية خلق، لأن الخلق يعني أحداث أو ايجاد الشيء من اللاشيء . ولا يخفى الفرق ما بين عملية الخلق وعملية التركيب على العقل السليم الذ هو أعظم موهبة وهبها الله للانسان . فالخلق شيء والتركيب شيء آخر . وعلى أساس الرواية المذكورة قامت وانتشرت التفسيرات والتأويلات الدينية والغالبية العظمى من دراسات رجال الدين المتعلقة بنشوء النوع الانساني . ما هو التعليل العلمي لنشوء الانسان ؟
ما هو التعليل العلمي لنشوء الانسان وكيف يلخص التفكير العلمي نشوء الانسان ؟ الجواب العلمي يوضح أن نشوء النوع الإنساني حصل بالتطور وليس بالخلق كما نلاحظ من خلال ملاحظة سعاده التي أبرزها في مؤلفه وهي : أن المدرسة العلمية رأت أن الانسان ليس الا كائنا واحدا من الكائنات الحيَّة . وانه خاضع للنظام الجاري عليها كلها .فحيث الحياة في كل مظاهرها غير ممكنة لا يستطيع الانسان أن يعيش. ولما كان الانسان مظهرا من مظاهر الحياة العامة فلا يمكن البحث في كيفية نشوئه على حدة ولذلك لا بد من جعل السؤال” من أين جاء الانسان ؟” ضمن نطاق سؤال أوسع هو : ” من أين جاءت الحياة ؟”( ص.32). هذه هي الرؤية العلمية لنشوء الانسان وعليها بني التعليل العلمي أو التفسير العلمي . نلاحظ هنا من خلال القول المتقدم أن العلم لم يتعرض الى الله الخالق او الموجد ولا الى عملية كيفية الخلق ، بل اكتفى بالاشارة الى مصدر نشوء الانسان الذي هو الحياة دون أن يتعرض الى موجد الحياة أو خالق الحياة أو كيفة نشوء الحياة أو إذا ما خضع وجود الحياة لخالق أم لا . وكل ما تناوله سعاده هو ان تطور الحياة كان سبباً أو سبب تطور جميع مظاهرها وتطور جميع الكائنات الحيَّة بما في ذلك تطور النوع الانساني . وهذا يعني بنظر سعاده أن الانسان نشأ بالتطور أي بتطور الحياة الذي أدى الى تطور أنواعها ومن ضمن هذه الأنواع النوع البشري . ولذلك فان العلم عندما وصل الى تقرير نشوء الانسان بالتطور، فإنه لم يعتمد على حكاية أو رواية مسلسل تناقلهتها الاجيال واتخذت طابع التقديس في كتب الأديان وأصبحت شائعة بين الشعوب ، بل اتخذ العلم سبيلا آخر هو سبيل البحث و الاطلاع والاختبار والمناقشة والاستقصاء والمتابعة والمراقبة وكل ما يفيد في الوصول الى أقرب الاجابات الى الواقع والمنطقي والمعقول في صدد النشوء الانساني ، وما زال البحث قائما ووجهات نظر العلماء والباحثين تخضع لمختلف الآراء والنظريات . فهي متوافقة حيناً ، ومتعارضة في أحيان أخرى ، ومتنوعة في أحيان كثيرة .
إن القدرة التي أوجدت الحياة أو الله لم يعط سره لأحد لا للدينيين ولا للعلميين ، وأهم ما وهب الله للانسان هو موهبة العقل ليعمل لا ليقف مشلولا أمام أي وضع أو واقع أو رواية أو حدث ، أو أي شيء آخر ، بل ان ميزة العقل الكبرى هي أنه يمتاز بالجدارة التي تؤهله أن يميِّز ويعمل ، ويتذكر ويتخيَّل ، ويعقل ويفكر، ويدرس ويبحث ويناقش، ويقبل ويوافق ويرفض، ويتراجع ويتقدم ، وينظـِّم ويدمـِّر ويبني ، ويكتشف ويخترع ، ويفعل كل ماتسمح به طاقته المادية والعقلية للوصول الى أجوبة منطقية ومعقولة ومرضية . إن مسألة نشوء النو ع الانساني لا تزال وتستمر تشكـِّل أكبر تحدي للمفكرين والباحثين والعلماء والفلاسفة والكتـّاب الذين أبدوا الكثير من الآراء المتعاكسة والمتصارعة حول مسألة نشوء الانسان . مما يجعلنا نكرر ونؤكد أن القوة الخالقة لم تبح لأحد من الناس بسر وجود العالم لا للدينيين ولا للعلماء ، كما أننا على قناعة تامة أيضا أن الانسان لم يُعط موهبة العقل لينشل أمام أي وضع أو حدث أو واقع أو أية علامة استفهام أو أي سر كبير . بل ان الله وهب العقل للانسان ليستخدمه في هذا العالم وليمجد به واهب العقل الذي لا يقبل ولا يرضى أن تصبح عطاياه مشلولة مهملة وبدون قيمة . لقد أعطى تلك الموهبة التي هي العقل للعالم لكي يدرس ويحلل طبائع الأشياء ، وأعطاها للفيلسوف لكي يفكـِّر ويتأمل ويعطي القيم الفكرية مواضعها ومراتبها ، وأعطى موهبة العقل أيضاً لرجل الدين ليكون له دليلاً ويرشد به الناس ويوجههم الى مما رسة الفضائل الحميدة وتحسين سلوكهم ومعاملاتهم في حياة تمتاز بالتفاهم والتضامن التناغم والانسجام والسلام . بناء على ما قدمناه ندرك ونتفهم بسهولة كلام سعاده عندما قال في محضرته السابعة في الندوة الثقافية 1948 صفحة 171:” لم يوجد العقل الانساني عبثا. لم يوجد ليتقيد وينشل. بل وجد ليعرف ، ليدرك ، ليتبصر ، ليميز ، ليعيّن الاهداف ، وليفعل في الوجود … العقل في الانسان هو نفسه الشرع الأعلى والشرع الأساسي . هو موهبة الانسان العليا . هو التمييز في الحياة ، فاذا وضعت قواعد تبطل التمييز والادراك ،تبطل العقل ،فقد تلاشت ميزة الانسان الأساسية، وبطل أن يكون الانسان انساناً وانحط الى درجة العجماوات المسيَّرة بلا عقل ولا وعيّ .” ويضيف أيضا في المحاضرة السابعة نفسها صفحة 172 : ” سنة الله التي لا يفعل فيها عقل مميز مدرك هي للجمادات والعجماوات . أما الانسان فـقـد أعطاه القـوة المميـزة المـدركة لينظـر في شـؤونه ويكيـِّفها على ما يفيـد مصالحه ومقاصده الكبرى في الحياة. فليس معقولا اذن أن يعطّل الله نفسه هـذه القوة بشرع أبدي أزلي جامد …” لقد وهب الله الانسان موهبة العقل ليعمل بها لا لايهملها أو يعرقل فعلها أو يعطلها ، هذه الموهبة هي التي تشجـّع وتحمل العالم الدنيوي على البحث والتفتيش عن حقائق الأشياء الدنوية، وتقود العالم الديني الى وجهته الدينية الحقيقية التي هي التأمل والتفكير بالمصير والحياة الباقية كما أشار سعادة في محاضرته السابعة صفحة 166 أي ” الاشتغال بالأفكار الدينية الفلسفية أو اللاهوتية،المتعلقة بأسرار النفس والخالق وما وراء المادة.” (سعاده المحاضرةالسابعة ص. 166 )، وليس الاستناد الى الروايات الافتراضية الخيالية والتخمينية . وهذا ما توصل اليه الفيلسوف ابن رشد حين قال: ” لا يمكن أن يعطينا الله عقولاً ويعطينا شرائع مخالفة لها”
الخلاصة التي يمكننا التوصل اليها من خلال هذه الدراسة هي أن العالم الاجتماعي أنطون سعاده كان عالماً واضحا في بحثه عندما عيّن منهجه تعيينا لا التباس فيه ولا تشوش واعتبر العلم نهجا واضحا ووحيدا لحصول المعرفة الواقعية السليمة التي تساعد الدارسين الباحثين على التقدم ، وتفتح مجالات واسعة للمزيد من المعلومات والمعارف والاختبارات للوقوف على حقائق الاشياء الغامضة واكتشافها خصوصا بعد أن أثبتت العلوم على اختلافها كما يقول سعاده : ” أن الحياة أقدم كثيرا مما قال به التعليل الديني ، وأن الأنواع من حيوان ونبات متصلة اتصالا وثيقا ينفي مبدأ الخلق المستقل ، كما اثبتت الكيمياء وحدة العناصر التي تؤلف ما هو عضوي وما هو غير عضوي”(صفحة 38) . وفي هذا يتفق مع وينرت – أورسبرونغ . لقد اعتمد سعاده في بحثه على أكثر من علم وخاصة علوم الأحياء ، والانسان، والجيولوجيا، والنبات، والحيوان . ( ص 22 و23 )
لقد وافق سعاده على نظرية التطور في موضوع نشوء الانسان لأن التطور قد قامت عليه الدلائل والبراهين العلمية، وقد قال سعاده في مؤلفه ما يلي: ” فلبعض التباتات استعداد غريب للتطور، والانسان نفسه قد تطور بعد نشوئه ، فبين الانسان العصري والانسان الهيدلبرغي أو النيندرتالي شوط من التطور لا يستهان به “(صفحة 41) . في حين أن الحكاية الدينية لم يقم عليها أي دليل أو برهان . بل ينبغي على الانسان أن يؤمن بها ويعتبرها بديهية وغير خاضعة لأي نقاش خلافاً للعلم الذي لا يقر بايمان الا بعد المعرفة . أما الخلاف ، فانه لا يزال محتدما بين العلماء ورجال الدين ، وبين العلماء أنفسهم بين مؤيد ومعارض. بين الذين يؤيدون نظرية الخلق وبين المعارضين الذين يؤيدون نظرية التطور أي أن يكون الانسان نشأ بالخلق أم بالتطور . حتى أن بعض دعاة التطور يعتقدون بأن هناك خالق لعملية التطور ، بينما نجد حاليا أن كثيرين من العلماء يعلـّمون بأن الحياة نشأت من المادة من دون أي تدخل الهي كما صدر عن أحد دعاة التطور وهو السير جوليان هوكسلي في الذكرى المئوية الدروينية في شيكاغو عام 1959 حين قال:”لا مكان في التطور للخوارق . فالأرض وسكانها لم يخلقوا خلقا ، بل نشأوا بالتطور”كما ورد في كتاب:” هل وُجد الانسان بالتطور أم الخلق؟ ص .6″ وفي المحاضرة نفسها يقول البروفسور هوكسلي أمام 2500 مندوب من المجتمعين في مؤتمر شيكاغو : ” اننا جميعنا متقبلون حقيقة التطور … فتطور الحياة لم يعد مجرد نظرية ، بل هو حقيقة واقعة . انه قاعدة تستند اليها كل طريقة تفكيرنا . ” ( ص.7 )
كما نجد في كتاب “البيولوجيا أي علم الأحياء هو بخدمتك” الصادر في عام 1963 الذي يؤكد القول المتقدم بقوله : ” ان جميع البيولوجيين ذوي السمعة والصدقية متفقون على أن تطور الحياة على الأرض هو حقيقة ثابتة .” ( ص. 7 ) وقد أكد على ذلك كتاب ( البيولوجيا بخدمتك ) ولم يقتصر القول بالتطور بالنسبة لنشوء الانسان على العلماء العلميين فقط ، بل تعداه الى الرؤساء الدينيين أيضا ، حتى أن كثيرين من رؤوساء الدين قد وافقوا على مفهوم التطور . فقد ذكرت مجلة ميلووكي في الولايات المتحدة الأميركية في عدد 5 آذار عام 1966 بأن راعي الكنيسة الكاثوليكية في كنيسة القديس سان جيمس … اصدر بيانا يتقبل ويوافق فيه على عملية التطور قائلا : ” ليس هناك أي شك حول حقيقة التطور” ( ص. 7 ) وقد ذكرت المجلة أن الكاهن شدد على كلمة ” حقيقة ” ووضع تحتها خطاً .
النتيجة الحاصلة من خلال بحث سعاده واستقصائه في الثلاثينات من القرن الماضي والتي سبق فيها الكثيرين من العلماء المعاصرين هي أن نشوء الانسان كان بالتطور وقد قام عليه الدليل العلمي ولا جدال فيه . أما بالنسبة لكيفية حدوث التطور، والزمن الذي حدث فيه ، والبيئة التي سبق أن حدث فيها ، وهل كان بطيئا أو فجائيا ، أم كان ذلك دفعة واحدة سبقت تطور البيئة أم على دفعات ، فان سعاده يقول أن العلماء لم يصلوا الى اتفاق بشأن ذلك ، ولذك ترك الأمر لاستكمال اختبارات وأبحاث العلماء وتحقيقاتهم في المستقبل ، وقد أشار الى ذلك بقوله : ” أن التطور قام عليه الدليل والبرهان الجزئي ” ولم يقل البرهان الكلي . وكذلك عندما قال أيضا : ” لا نستطيع ، مما أبرزه لنا العلم ، أن نعيّن بالضبط الزمن الذي ابتدأت فيه الحياة . ولا يمكن اقامة الدليل ، بكل معنى الكلمة ، على كيفية حدوث التطور منذ بدء الحياة حتى نشوء الانسان ، اذ ليس بين البشر الكاتبين من كان شاهدا يسجل تفاصيل هذا الحدث الخطير،فمن يطلب من العلم أن يروي حكاية تطور كل كائن حيّ كما حدث تماما لا يحصل على جواب .
ولكن التعليل العلمي يأتي بدلائل تعطي برهانا معقولا لوجودنا وكيفية حدوثه . ولكل فرد يطلع على هذه الدلائل أن يرى لنفسه هل هي كافية لاقناعه أم لا . ” ( نشوء الأمم صفحة 41 ).
يعتقد البعض أن العالم الاجتماعي السوري أنطون سعاده يجاري وليم داروين والعلماء القائلين بالتطور من الجماد الى النبات الى الحيوان الى الانسان . اننا نرى أن هذا الاعتقاد بعيد عن الصحة كليا . صحيح أن سعاده وافق القائلين بالتطور واعتبر أن الانسان نشأ بالتطور وقد قام الدليل العلمي والبرهان الجزئي على هذا الاعتقاد ، لكن سعاده يقول اذا اردنا ان نعرف من أين جاء الانسان علينا أن نعرف من أين جاءت الحياة . فالانسان هو مظهر من مظاهر الحياة كما أن النبات والحيوان هما مظهران أيضا من مظاهر الحياة . ولكل من هذه الأنواع عملية تطور خاصة به حتى ولو شبه للكثيرين ” أن آخر أفق كل نوع تبدو وكأنها بداية أفق النوع الذي يليه ” ((نشوء الامم ص 34) . ان الجامع المشترك الأهم أو القاسم المشترك بين مظاهر الحياة أو أنواع الحياة المتعددة هو أن جميعها أنواع حيّة . ولذلك لا بد لهذه الأنواع من أن تتشابه في بعض الصفات الحيَّة ، كما يمكن ملاحظة بروز أشياء اكثر تشابها بين بعض الأنواع من غيرها . ففي البدء كانت الحياة ومن دون وجود الحياة لا وجود لأي مظهر أو أي نوع من مظهارها وأنواعها الحيَّة . صحيح أن بين الأنواع ترابط، وجميع الأدلة تثبت الاتصال بين الكائنات الحية بعضها ببعض وقد اقام العلم الأدلة المقنعة على ذلك الاتصال كما يقول سعاده : ” بأنّ الأنواع العديدة الّتي تملأ الدّنيا إنّما هي تنّوعات حياة عامّة وتركّب عناصر أوّلية واحدة تمتدّ في سلسلة تطوّرات يغيب أوّلها وراء الطّيات الجيولوجيّة.” ( نشوء الأمم ص. 40 ) ولكن هذا الترابط لا يعني أبدا أن الأنسان كان قرداً قبل أن يكون انسانا . والذين يقولون بهذا من العلماء ، فانهم ، بدون شك ، يلتقون ويشاركون الدينيين الذين بنوا استنتاجاتهم على حكاية الخلق المستقل الوهمية والتي لا تتمتع بالمصداقية عندما وصلوا الى الجدار المسدود في ابحاثهم فاختلقوا حكاية وهمية أخرى.شبيهة بخلق آدم وحواء . اننا نعتقد أن موجد الكون وموجد الحياة وجميع أنواعها لم يعط سرالايجاد لأحد، واننا على يقين حتى أيامنا هذه أنه لم يتوصل أحد الى كشف أسرار الكون والوجود والحياة . أما بالنسبة للنظريات المتعلقة بنشوء الانسان ، فان العالم الاجتماعي السوري أنطون سعاده كان واضحا حين قال : ” ومهما يكن من أمر النّظريّات المتعلّقة بنشوء الإنسان وهل حدث ذلك ابتداء من حالة قرديّة كانت درجة من درجات ارتقائه، أم أنّ القرديّة حالة منحطّة تفرّعت من حالة التّطوّر نحو البشريّة ، فمّما لا شكّ فيه أنّ الإنسان يقع من الوجهة الإحصائيّة، في جدول الحيوانات المتجمهرة أو المتجمّعة، أو هي الأنواع الحيوانيّة الّتي يعيش أفرادها جماعات.”(نشوءالامم ص 89 )
وهنا لا بد من الاشارة والتركيز على عبارة : ” حالة قردية ” سواء كانت درجة من درجات الارتقاء أو حالة من حالات الانحطاط . لأن المقصود من العبارة هو حالة واقعة بين مرحلتي الانحطاط والارتقاء . وليس المقصود أن يصبح الانسان قردا اذا انحط ، أو يتحول القرد الى انسان اذا ارتقى .فالانسان والقرد نوعان مختلفان من أنواع الحياة كسائر الأنواع المترابطة والمتصلة بعضها ببعض مثل النباتات والحيوانات والحشرات . وقد نبه سعاده الى ذلك بقوله:”وإذا كان الإنسان يقع من الوجهة الإحصائيّة، في جدول الحيوانات المتجمهرة،فلا يعني ذلك بوجه من الوجوه أنّ بينه وبين الحيوانات والحشرات المذكورة قرابة اجتماعية تـُمكّن من استخراج أقيسة عامّة تطبّق على كلا الحيوان والإنسان، كما ظنّ ويظنّ عدد من الكتّاب الاجتماعيّين وغيرهم.”(نشوء الأمم صفحة 91) . وهذا ما لفت انتباه الأكاديمي استاذ الدراسات العليا في الجامعة الفدرالية البرازيلية الدكتور لويس فرناندو لوبس بيريرا بعد اطلاعه على كتاب ” نشوء الأمم ” فكتب تحليلا أكاديميا قال فيه : ” نجد أن سعاده يسعى الى ما يجعل دراسته مميزة حين يفصل ما بين عالـم الحيـوان وعالـم الانسان .فالفـرق الذي قال به بالنسبة للعلاقة مع البيئة المادية هو فرق لافت،وعلامة بارزة.وفي النهاية، فان الحيـوانات تميل الى إشباع حاجاتها بشكل مباشر بينما يستطيـع الانسان أن يشبع حاجاته الى جانب ذلك بشكل غير مباشر باستعمال الأدوات ، وهذه الأدوات تتطورعلى نحو متزايـد “.
نتوصل من خلال دراستنا ” لنشوء الأمم ” أن سعاده انتقد ونقض تأويل رجال الدين المبني على رواية خيالية والقائل بالخلق المستقل والمباشر والبسيط من جهة،واكتفى بانتقاد التأويل العلمي من غير أن ينقضه ، فوافق على مفهوم نشوء الانسان بالتطور من جهة ،ولم يوافق على اعتبار الانسان متحدرا من نوع من القرود من جهة ثانية . لقد أكـّد سعاده أن ليس بين الانسان والحيوانات والحشرات قرابة . وكل ما في الأمر أن جميع الانواع من نباتات وحيوانات وحشرات وقرود مترابطة فيما بينها لكونها مظاهر حياة ، والحياة هي أصل جميع الكائنات الحية . وبهذا نستنتج أن الانسان نشأ بالتطور نوعاً كسائر الأنواع وليس فردا مستقلا كما تروي الحكاية الدينية ،ولم يكن نشوؤه أيضا بالتحدر من نوع القرود كما توهم الكثيرون من العلماء . ان الأنواع المختلفة هي كائنات حيَّة مصدرها الحياة التي نشأت على كوكب الأرض وهذا ما تنبه له الفيلسوف السوري الأديب جبران خليل جبران بفطنته حين قال : ” إن أولادكم ليسوا أولادا ً لكم . إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة الى نفسها “.
بالنسبة لنشوء الانسان المستقل ، فاننا نرى انه الى جانب أن للفرد استقلال فردي محدود ، فان له حياة مشتركة مع الآخرين تنتظم في حركة وعمل جميع الافراد كأمكانيات او فعاليات أو طاقات اجتماعية انسانية متوافقة ومنسحمة من أجل غاية عامة مشتركة . كذلك يمكن تفسير الحالة أيضا بالنسبة للأنواع الطبيعية . فكما لكل نوع استقلاله المحدود ،فان له ترابطه وعلاقته مع سائرالأنواع (نباتات ، حيوانات ، حشرات ، أسماك ، قرود ، طيور الخ…) بحيث تعيش الأنواع جميعها في تناغم وانسجام كاملين لغرض الحياة المشتركة الذي لا يزال بالنسبة لنا مجهولا . ومع ان كل هذه الأنواع هي مظاهر للحياة ، لكن سعاده لا ينسى ولا يسدل الستار عن الفوارق البيولوجية والاجتماعية والفكرية الاساسية بين عالم الانسان وعالم الحيوان ، بل يقول :” اذا كان الانسان يتفق وسائر الحيوانات والكائنات الحية في مبدأ المحافظة على النوع وخدمة النسل فان ظروف تطبيق هذا المبدأ عند الانسان تختلف عنها عند الحيوان …” (صفحة 93) ويضيف قائلاً : ” واذا تركنا الوجهة البولوجية وعمدنا الى الفوارق الاجتماعية البحتة وجدنا في الاجتماع الانساني ظاهرتين مفقودتين في غيره,هما استعداد الفرد لبروز شخصيته،واكتساب الجماعة شخصيتها التي تكونها من مؤهلاتها الخاصة وخصائص بيئتها . وهاتان الظاهرتان الاساسيتان اللتان تميزان الاجتماع البشري تمييزا شديدا بخصائصهما لا وجود لهما في عالم الحشرات والحيوانات الدنيا ولا في عالم الحيوانات العليا…”( صفحة 98) ويقول أيضاً : ” هنالك الفارق الأساسيّ الأوّلي الّذي يجعل لأعمال الإنسان وللاجتماع البشري صفة مستقلة تبطل كل مقابلة اجتماعية بين الإنسان والحيوان، هو ظهور الفكر الّذي له كلّ الأهميّة في الحياة والاجتماع الإنسانيّين…”(صفحة 99). ويزيد سعاده على ما تقدم هذه الحقيقة قائلاً:” والحقيقة أنّه لا مبرّر لاعتبار مظاهر من عالم الحيوان معادلة لمظاهرعالم الإنسان، وإيجاد علاقة بين تلك وهذه عن طريق بعض المشابهات الظّاهريّة العامّة، واتّخاذ ذلك أساساً لإيضاحها أو للتّحدّث عنها، فيما يختصّ بالإنسان، كما عن شيء واضح من الوجهة البيولجيّة. فاتـِّخاذ الأمثلة الاجتماعيّة للإنسان من الحيوان يجب أن يكون على العكس ، أي من الإنسان للحيوان، فمظاهر كثيرة في عالم الحيوان الاجتماعيّ تشبه نوعاً مظاهر من عالم الإنسان الاجتماعيّ. ولكن كم هو عظيم مبلغ الرّضى والاقتناع الّذي يصاحب قولنا: (وهذا تجده أيضاً في الحيوان). فما شأن هيأتنا الاجتماعيّة وثقافتنا وما إليهما إذا كانت حياتنا الاجتماعيّة ليست إلاّ تطبيقاً لأمثلة مأخوذة من عالم الحيوان ؟.”.
لقد أصبح واضحا ، اذاً ، أن الانسان نشأ بالتطور نوعاً كسائر الأنواع وليس فردا مستقلا كما تروي الحكاية الدينية ولا يزال ينمو ويتطور ، ولم يكن نشوءه أيضا بالتحدر من نوع من القرود كما توهم الكثيرون من العلماء . لقد تأكد لنا ان الأنواع المختلفة هي كائنات حيَّة مصدرها الحياة التي نشأت على كوكب الأرض وهذا ما تنبه له جبران خليل جبران كما أشرنا أعلاه عندما قال : ” إن أولادكم ليسوا أولادا ً لكم. إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة الى نفسها “. واننا نميل الى الاعتقاد أن نشوء الانسان حصل بنفس الكيفية التي حصل فيها نشوء سائر الانواع الأخرى أي بالتطور.
نتوصل من خلال دراستنا وتحليلنا لكتاب ” نشوء الأمم ” لسعاده أنه انتقد ورفض تأويل رجال الدين المبني على أساس قصة رومنسية من الخيال الانساني تقول بنشوء الانسان المستقل أو المنعزل عن غيره من الأنواع والمباشر والبسيط . كما أنه انتقد تأويل العلماء من غير أن ينقضه ، فوافق على منهجهم العلمي لجهة نشوء الانسان بالتطور ولم يوافق على تحدره من نوع القرود وسلالتهم ، لأنه لا يوافق على وجود قرابة اجتماعية بين الانسان والحيوانات والحشرات .وكل ما يمكن قوله في هذا الصدد انه يوجد تشابه بين أنواع : الانسان ، والحيوان ، والحشرات ، والقرود ، والأسماك ، والطيور المترابطة فيما بينها باعتبارها مظاهر حياة ، والحياة هي أصل جميع الكائنات الحيَّة . هكذا نستطيع أن نستنتج أن الانسان أو النوع الانساني نشأ بالتطور كنوع وليس كفرد مستقل كما ورد في الرواية الدينية ولا من سلالة القرود كما توهم كثير من العلماء . و نشوء الانسان كنوع هو شبيه بنشوء جميع سائر الأنواع المختلفة الأخرى.
ففي الحقيقة ،ان جميع الأنواع المختلفة هي نتائج عمليات تطورية حياتية متنوعة ومختلفة حصلت على الأرض . فاذا أردنا أن نعرف من أين أتى الانسان ، علينا أن نعرف من أين أتت الحياة ، وبالتالي كيف نشأت الحياة . ويجب علينا في نفس الوقت أن نبحث لنكتشف من أين أتت الأرض وكيف تشكلت الكرة الأرضية . واذا أردنا أيضاً أن نكتشف كيفية تكون الكرة الأرضية ، فان مهمة اكبر تنتصب أمامنا وعلينا تنكبها وهي : كيف نشأ النظام الشمسي ومن أين ، ومن ثم اكتشاف ومعرفة نشوء أنظمة الأجرام الأكبر فالأكبر فالأكبر حتى اكتشاف علة العلل الأزلية الأبدية الأساسية اللانهائية التي أوجدت الكون اللانهائي. العلة النهائية البعيدة التي سماها العقل البشري باسم الله الخالق الموجود من ذاته المطلق القوة والقدرة والمطلق العلم والمحيط بكل شيء ولا حدود لقوته وعظمته ، ولا يستطيع فكر مخلوق متناهي مهما اتسعت موهبته أن يبلغ سر الخالق اللامتناهي ، لأن خالق الكون والعوالم أو الله هو العظيم الأعظم الذي كلما تخيلنا أننا نقترب من ادراكه ، نكتشف فجأة أن كل ما تمكنا من الوصول اليه ليس أكثر من مجرد قطرة من ماء في محيط ، ونفاجأ بعدها بأسرار خفية لم تكن تخطر في خيالنا . ولكن كل هذا لا يعني أبداً أن علينا أن نيأس وننشل أمام غوامض أسرار الحياة والوجود والكون لأن العظمة الخالقة نفسها التي هي الله هي التي برمجتنا وهيأتنا ومنحتنا امكانية وقوة العقل الذي هو شعاع منبثق من تلك العظمة الخالقة. وهذا الشعاع هو دائم التوهج والفعل عبر التطور ونمو الأجيال جيلاً بعد جيل في الزمان والمكان .
النتيجة التي يمكن استخلاصها من كل ما تقدم من قرائتنا ودراستنا لكتاب ” نشوء الأمم” تأليف العالم الاجتماعي السوري أنطون سعاده هي أن الانسان وجد نوعا ً من (ذكر وأنثى) ، وليس فردا ذكرا ، ولا فرداً أنثنى متحدراً من اي نوع من القرود ، أو الحيوانات أو الحشرات أو الأسماك أو الطيور أو النباتات أو أي نوع من الجراثيم المرئية أو غير المرئية . لقد وجد الانسان على كوكب الأرض نوعاً كسائر الأنواع . ولذلك يصح أن نؤكد بانوجاد الإنسان- النوع على الأرض كما انوجدت سائر الأنـواع الأخـرى وانـتـشرت في كل بقاع الأرض . كما يمكن أن نطلق على هـذا الانسان – النوع : النوع الانساني كما نقول النوع النباتي أو النوع الحيواني أو النوع القردي . ونشوء الانسان- النوع ونموه كان نشوءاً ونمواً بالتطور وليس دفعة واحدة كخلق فردي مباشر ومستقل عن غيره من الأنواع . واذا كان العلم قد توفق الى اكتشاف ناموس التطور ، فان الدين أو التفكير الفلسفي التأملي قد سبق العلم في اكتشاف ناموس آخر بالتأمل هو ناموس عبّر عنه سعاد بقوله : أن لا شيء يمكن حدوثه من لاشيء .وهذا ما أشار اليه سعاده كعالم وفيلسوف في كتابه:( الصراع الفكري في الأدب السوري ) قائلا ” ولكننا نتصور ، بموجب مبدأ الاستمرار والاطراد الفلسفي ، الذي أضعه نصب عيني في فهمي الوجود الانساني ، أنه لا بد من أن يكون ذا اتصال وثيق بعالم نظرتنا الجديدة وحقائقه وقضاياه ، كما أننا نرى ، بموجب هذه النظرة ،أن عالمها ليس شيئا حادثاً من غير أصل، بل شيئا غير ممكن بدون أصل جوهري تتصل حقائقه بحقائقه ، فتكون الحقائق الجديدة صادرة عن الحقائق الاصلية القديمة بفهم جديد للحياة وقضاياها ، والكون وامكانياته ، والفن ومراميه ” .
بعد كل ما تقدم ، نكتشف أن أنطون سعاده بالاضافة الى كونه عالم اجتماع كبير ، هو أيضاً فيلسوف كبير ولكن نظرته الفلسفية تستند الى العلم أساساً وتقوم عليه . والعلم بطبيعته ينطلق ويبدأ من فهم الواقع والحقائق المادية- الروحية أو الروحية-المادية دون تجزأة أي أن حقائق الحياة لا تقبل التجزئة . فكل ما هو انساني مادي هو أيضاً انساني روحي ,. وكل الحقائق الانسانية الروحية هي في الوقت نفسه حقائق انسانية مادية . وهذه الحقائق المادية-الروحية الانسانية هي أساس التطور والنموّ والتقدم وارتقاء الانسانية. وقد أطلق سعاده على فلسفته وصف الفلسفة ” المدرحية “.
ملاحظة : ان كلمة ” مدرحية ” هي مصطلح فلسفي باللغة العربية ابتكره أنطون سعاده وهو يعني وحدانية الحياة بمظهريها الحياتيين (المادي والروحي) اللذين يشكلان التوازن التناغمي الانساني منذ بدء ظهور ونشوء النوع البشري ، وقد رافقا الحياة في جميع مراحل نموّها وتطورها ورقيّها مع التأكيد بأنه لا وجود لأية مظاهر انسانية روحية ان لم تكن مادية ، ولا وجود لأية مظاهر انسانية مادية أن لم تكن روحية , بل ان المظاهر الانسانية المادية هي ايضاً مظاهر روحية . وان المظاهر الانسانية الروحية هي أيضاً مظاهر مادية . ويمكن وصفها بالمظاهر الانسانية الحياتية المادية-الروحية الواحدة دون ثنائية أو تعدد . وبهذا يمكننا ملاحظة أن أنطون سعاده اضافة الى كونه عالم اجتماع هو أيضاً فيلسوف ويستند في فلسفته الى العلم الذي يدرس واقع الوجود الانساني منذ نشوء نوعه ، ويرافق هذا الواقع في جميع مراحل تطوره هادفاً الى انشاء حياة قومية – اجتماعية جيّدة جديدة ليس لأمته السورية فقط ، وانما لجميع الأمم بشكل عام من أجل أن تحيا البشرية وتتطور وتتقدم وترتقي في انسجام تام , وتعاون متين ، وسلام شامل . فيتولد بذالك الحس الانساني السليم بين الأمم، وينبثق الوعي أو الوجدان العالمي ، وينشأ العقل البشري الجامع والشامل ثقافات جميع الشعوب . و بهذه النظرة تستطيع الانسانية أن تواجه حقائق الكون ، وتكتشف أكبر قدر ممكن من قوانينه وأسراره ، وتحقق للبشرية جمعاء أجمل وأرقى المـُثـُل العليا .
**** ترجمة المحاضرة بالبرتغالية في المعهد التاريخي الجغرافي البرازيلي الى العربية وقد نشرت في كتاب : ” أنطون سعاده العالم الاجتماعي والفيلسوف “
يـوسـف المسمار